
تطرح رواية “باردة كأنثى” للروائي “إسماعيل يبرير” في بنائها السردي اشكالات وجودية تتعلق بقيمة الإنسان في بحثه عن حدود ذاته التائهة في فترة التسعينات، بطلها شخصية “إدريس “صاحب الثمانية عشر ربيعا.
ستمثل هذه الشخصيةالصوت المنفرد القائم بسرد تفاصيل الرواية المكونة من (عشرة فصول)، والتي تجري أحداثها الرئيسة بين فضائين متناقضين الأول: تجسده مدينة الجلفة، والثاني: تجسده مدينة الجزائر العاصمة؛ في رحلة بحث عن الذات المرتحلة بينهما، حيث ترسم الرواية و في سرد مونولوجي متتال لأهم المشكلات النفسية التي يعاني منها الشباب الضائع في متاهات الخيبة و الفشل.
يرتحل بنا الروائي “إسماعيل يبرير” من خلال روايته إلى الفضاء المأساوي الذي عاشته الشخصية الرئيسة “إدريس”، فيصور لنا مجموعة من الصور المشهدية التي تعكس الاكراهات و التقلبات والتشنجات المجتمعية التي عاشها في ظل صراع نفسي /وجودي /هوياتي ، صراع داخلي يمتد ليغطي أجزاء شاسعة من بنية الرواية؛ إذ تصور لنا الرواية وفي خلفياتها الأحداث المأساوية التي عاشها الشباب الجزائري في ظل الحرب الأهلية التي ستكون الأرضية الخلفية للرواية، فتطرح بذلك الأزمة التي عاشها ذاك الجيل من منظور نفسي، اجتماعي، ثقافي، وسياسي، فبعد الفشل الذريع في اكمال مشوار الدراسة يتجه الشاب” إدريس” إلى الحياة العملية فيحاول تجريب مختلف الأعمال والتي ابتدأها ببيع القطع المستعملة في السوق المغطى بمدينته، ومن تلك اللحظة تبتدىء الصور المشهدية بالبروز، و التوالي، والتعاقب والتي تعكس جوانبا من الحياة النفسية والاجتماعية والدينية والسياسية.
والاشكال المطروح: كم من صورة احتوت الرواية؟ما تأثير هذه الصور على البناء السردي للرواية؟ ما الصورة التي عكست الأزمة الوجودية التي عانت منها الشخصية الرئيسة؟
سنحاول الإجابة عن كل هاته الاشكالات فيما يلي:
أولا: الصورة المشهدية الافتتاحية:
يفتتح الروائي “إسماعيل يبرير” أولى المشاهد السردية لروايته “باردة كأنثى” من خلال استباق حكائي وتعريفي بالشخصية الرئيسة “إدريس”
في رحلة عودته إلى مدينة الجلفة بعد غياب طويل نسبيا، فمن خلال هذا المشهد الأولي الذي تتحدد من خلاله الزاوية الكلية للرواية والمنظور إليها بعدسة الراوي/ الشخصية؛ وهو شخصية”إدريس”، وهو مشهد تتراءى منه الأزمة الوجودية التي يعاني منها هذا الأخير، أزمة ستمتد لتسائل الواقع المأزوم الذي عاشته الجزائر فترة التسعينات؛ فقد امتزجت صورة” إدريس” مع حروف اسمه المفككة والمبعثرة يمينا وشمالا، فـ«اسمي لا يعني لي أكثر من أحرف مصطفة،
ألف،
دال،
راء،
ياء،
وسين توقف نطقه بحدة
أي الوجهين أرى….؟!
[…]
يكفي أن آخذ بعض الأبجدية لأعثر على ذلك الاسم الساحر الذي شردني ووطنني كما أراد» ص 9.
لقد ألقت هذه الأزمة أسئلة حارقة على الذات وهي تقف في المنتصف فلاهي تريد العودة والبدء من جديد، ولا التقدم نحو المستقبل المجهول، حيث يعود “إدريس” إلى مدينته الأثيرة وهو يتساءل عما حدث في حياته، وما الذي جرى؛ ولماذا حدث ما حدث من مآس.
يستذكر “إدريس” آخر مشهد له في مدينة الجزائر العاصمة وهو على “روشيه الموت” الذي بدا «مكانا مناسبا لهكذا مواقف،أجلس أعلى الصخرة مطلع القرن الواحد و العشرين،خراب القرن الماضي وغرنيكا التي داخلي ووجهانا الكسيران،كل ذلك يتناغم مع هذا الفضاء، كأني أنجح و أنا شيخ أهم فصول الفشل على الإطلاق، أنجح من حيث لا أدري في رسم “بورتريه”لقرن النهايات و البدايات الأهم في تاريخ البشرية الأسود[…] بدا لي قرنا شريرا، هرما بينما كان هديره الموج الملتطم بالصخور يعلو و يعلو، وتأخذ خيبتي كل منحى…تأخذ مكانه فتكبر و تتسع أكثر و أصغر…ها أنذا أتلاشى » ص ص 9ــ10.
يرتسم وجه” إدريس” المتشقق إلى شضايا إنسان على هدير الصخب الذي غطى على كل الخراب الذي بدأ يجتاح نفسه وهو على صخرة الموت، فإذا به يستحضر الخرائب التي وقعت في حياته وهي تمتزج بخرائب العالم الذي يعيش حالات ضياع وتيه مستدامين، و هو يحاول أن يتخطى أزمات الحروب و الفقر والمجاعة، والموت لكل مظاهر الحياة، إنه قرن النهايات التي ستجعل من الإنسان مجرد كائن اغترابي،و مشوه ، مثلما عكسته و تعكسه لوحة “غارنيكا ” للرسام العالمي “بابلو بيكاسو “وهي ترصد الخراب الذي أحدثته آلات التدمير الألمانية إبان الحرب الأهلية الإسبانية وهي تحول المدن إلى مجرد أشباح، و تحول الإنسان إلى مجرد شيء/كائن مشوه.
أضحت ذات” إدريس”صورة من صور الضياع والتيه ، حيث تجسد هذا الضياع من خلال الأحاديث النفسية المتعددة التي ترصد الأزمة الأولى التي تعرض لها، وهو يستذكر أول علاقة جدية وقعت معه وهي تنتهي بالفشل الذريع حيث تعرض إلى خيانة من طرف حبيبته ورفيقته التي تركته وأعادت حياتها من جديد بعد أن قضت على أخر ارتباط لها.
يناجي” إدريس” محبوبته وهو على حافة الصخرة التي سجلت كل آهاته، كل طموحاته، كل حنينه، وشوقه، فيتساءل«ترى ما الذي تفعلين الآن؟ حتما أنت تعيدين توضيب حياتك على عزف فارسك الشهم، ترتبين أولوياتك بينما لا أثر لي في ثانويتك، هل تقرئين؟تذكري إذن أنني طالما حدثتك عن حلم الكتابة قبل أن أصبح مشردا فارا من السكين و الرصاص و السجن، تذكري أننا كثيرا ما كنا نقرأ معا وكنت تندهشين من كل هاته الثقافة التي لدي وأنا لا أملك كتابا واحدا، ولم أكن أرى الثقافة التي ترين»ص 15.
مثل ضياع الحبيبة/العشيقة الحلقة الأخيرة من حلقات التشرد والضياع النفسي الذي سيطر على كل جوارح وأحاسيس و تفكير “إدريس” وهو يتعرض الى طعنات الزمن، المرة تلو الأخرى، فإذا به يجتاز أولى الخيبات، حيث كان يلجأ إلى صخرته التي كانت الصدر الذي احتضنه، فيناجي نفسه ويعترف بكل خطاياه وهو يترجى أن يتجاوز ما حدث فيقول:«هنا تتعرى أفكاري، وهنا أعترف بخطاياي المرة تلو الأخرى، و أعرف قبل أن أتسلم صك الغفران أني مكرر كل الخطايا، وهنا أشرب وحيدا على مذهب جدي مومن، عندما تحدى الجميع، وحافظ على أناقته و وجاهته رغم أنه كان سكيرا و لا يحاور أحدا كما يفعل مع قنيناته الحميمية العديدة» ص 10.
حاول “إدريس” إعادة بناء ذاته المتشضية وهو يشرف على الموت فعانق قنيناته التي صارت المؤنس الذي بحث عنه مرارا وتكرارا؛ فمرة في عائلته (أبوه، أمه، أخويه، خاله يحي المغتال)؛ وأخرى في علاقاته مع “وردة” و “أبا الحسن “؛ و أخرى مع الطبيبة”وردية “وزوجها الضابط”عبد الرحمن ” ولم يجده عندهم جميعا.
في خضم كل ذلك ومع ظهور الأزمة الأولى التي عصفت بالبلد، يصف “إدريس” مشهدا مأساويا تتحرك فصوله عبر طرحه لسؤال الكينونة التي تعيد رسم حالات الخوف وعدم اليقين و الفوضى والقتل عمدا : «أيقضتنا الفجيعة من سنوات الصبا الأولى إلى وعي جارح ماكر، باكرا تشكل وعينا على الأصوات الصاخبة،الرصاص والقنابل،رائحة الموت و الدخان وحمرة النهاية، من أكتوبر الفوضى و الخراب من القرن البائد المبيد إلى الربيع الذي حملها إلي لم أكن لأخبر سوى الموت » ص 16.
شكلت الفجيعة بكل قسوتها الوعي الذي نشأ مبكرا في عقل ونفس “إدريس” ،وهو الوعي الذي ابتدأ بأولى حالات الجنون القاهر الذي عانت منه البلاد حيث تحول الحلم بالأمن والاستقرار و العدالة والرخاء والثورة على كل الأوضاع السيئة إلى كابوس من القتل، والفوضى، و الخراب؛ فقد شكلت انتفاضة أكتوبر ربيعا فجائعيا لكل من شهده، إذ قفز الحزن من بيوته المهجورة ليعشعش في قلوب الشعب المهدور في أمنه وحياته.
هذا هو المشهد الانفتاحي الذي انفتحت به رواية “باردة كأنثى” وهو مشهد صور حالتين من حالات التيه النفسي:
الأول: ارتبط بالذات الرئيسة للرواية وهي شخصية “إدريس “.
الثاني: ارتبط بالذات المكانية الحاضنة لهذا التيه وهي شخصية “البلاد”.
ننتقل الآن لاستجلاء الصورة الموالية للصورة المشهدية وهي الصورة المجتمعية.
ثانيا: الصورة المشهدية المجتمعية:
قبل البدء بالتفصيل في هذه الصورة نتساءل: كيف تشكل المجتمع في رواية باردة كأنثى؟ أي صور جسدها؟ ما تأثير المجتمع على ذات” إدريس”؟
يمكن القول بأن هذه الصورة يمكن عدها صورة كبرى، وقد ضمت بداخلها عديد الصور الفرعية، والتي تبرز التواتر الذي يحصل بين كل صورة وأخرى، حيث يمكن تقسيم هذه الصورة إلى خمسة مشاهد ،كل مشهد ارتبط بشخصية من الشخصيات الفاعلة في الرواية؛ وهي:
شخصية أبا الحسن /سالم حشاوش.
شخصية الضابط عبد الرحمن.
شخصية الرفيقة وردة.
شخصية الخال يحي.
شخصية الجارة وردية.
فالصورة الأولى سترتبط بشخصية “أبا الحسن “أو ” سالم حشاوش”، والتي يمكن دعوتها بالصورة السوسيودينية، أما الصورة الثانية فسترتبط بشخصية الضابط” عبد الرحمن” والتي يمكن دعوتها بالصورة الأمنية”،أما الصورة الثالثة فارتبطت بشخصية “وردة ” ويمكن تسميتها بالصورة /المشهد الجنسي، أما الصورة الرابعة فقد ارتبطت بشخصية الخال يحي” والتي يمكن دعوتها بالصورة الإنسانية المضطهدة، أما الصورة الخامسة فسترتبط بشخصية”وردية” والتي يمكن دعوتها بالصورة الأمومية.
*الصورة الفرعية الأولى/الصورة السوسيودينية:
لقد ارتبطت هذه الصورة المشهدية بالتحولات التي أعقبت انتفاضة أكتوبر 1988، الذي صاحب التشكيل الجديد للمجتمع، وهو بروز فئة على سطح الأحداث السياسية، و احتلالها للمشهد المجتمعي، وقد برز في رواية “باردة كأنثى” من خلال شخصية أساسية، والتي ستمثل صورة الداعية و المرشد الجديد للشباب وهو شخصية “أبا الحسن” أو “سالم حشاوش”، الذي سيكون الإمام الذي سيقود الدروس الوعظية و الإرشادية لهؤلاء المراهقين حيث سيكون عمر” إدريس” خمسة عشر سنة ، إذ يذكر” إدريس” ما حدث وهو ينتمي لهذه الجماعة طوعا، حيث ستحدث هذه الجماعة وعيا جديدا يتعلق مباشرة بممارسة العنف والفوضى و القتل فيقول” إدريس” :«أبا الحسن سألني ذات مساء عندما زارني على غير العادة ببيتنا،لم يكن أبي يستسيغ هؤلاء الملتحين لكنه استقبله كعادته مبتسما، خرجت معه، ذهبنا إلى المسجد،صلينا المغرب و خرجنا إذ لم يكن يسمح لأحد البقاء بعد الصلاة سوى القيم الأعور المنبوذ من “الخوانجية”خارجا كلمني عن تردي أوضاعي كأني الجزائر، وعن تراجع إيماني و عقيدتي كأنه الله، ولم يخفني سرا أنه يعلم بأمر الفتاة التي شوهدت غير مرة معها،ثم صال وجال وخطب في حول الخلق الشرعي وعما ينتظره مني الإخوة المجاهدون وطلاب العلم الشرعي،أردت أن أصرخ بوجهه فلتذهبوا جميعا إلى السعير أنا أريد “وردة “لا أكثر ولا أقل» ص ص 20ــ 21.
تبرز هذه الصورة المشهدية ماكان يحدث للطلاب المراهقين بتلك السنوات الأولى من الفوضى المجتمعية عقب انتفاضة الشعب على الأوضاع المعيشية وهم يلجون عالم الدين السياسي الذي سيطغى على المشهد المجتمعي وهذا من خلال الرصد الذي تمارسه الجماعات الدينية لكل ما يتعلق مباشرة بالسلوك الشرعي للمنتمين للجماعة، وهو الدور الذي تكفل به” أبا الحسن” الذي سيعلم بأن” إدريس” قد انتحى عن تعاليم الخلق الشرعي باقترابه من فتاة و إقامة علاقة غير شرعية بمنطق الجماعة لذلك طغت على لغة هذا الأخير الارشادات القائمة على إبراز الخطأ في التعلق بفتاة وما ينجر عنها من حياد عن المنهج القويم.
توضح هذه الصورة الازدواجية التي يعيشها” إدريس” وهو المتأرجح بين نفسه التي تريد أن تعيش حياتها الطبيعية فتحب وتقيم علاقة حب مع بنت من عمره، فيحلم بمشاعر الحب بكل عنفوانها ورقتها وبين الإلتزام الذي وجد نفسه مع الإخوة المجاهدين وطلاب العلم الشرعي والتي يحرم فيها إقامة علاقات خارج إطار الشرع، فإذا به يتمنى أن يزول” أبا الحسن” «افترقنا وأنا أدعو الله أن ينتهي هذا المكنى بأبي الحسن» ص21.
لقد مارس” أبو الحسن” سيطرته على كل المراهقين حيث كان الرجل المكلف بتدجين شباب الحي واحتوائهم، وبث بذور الوعي المزيف بقيام الجهاد، وبإقامة الإمارة وهذا ما جعل من “إدريس “شخصية مستهدفة، لذلك نجد هذا الأخير قد دخل في عملية تأرجح بين القلب الذي يرغب بالعيش حياة طبيعية، وبين عقل يتساءل عن شخصية أبا الحسن والقوة المعنوية التي يملكها، فيأتي الجواب على لسان إدريس: «أتساءل إن كان فارا من التاريخ،ألم يكن صاحب الكتاب الذي قرأته مرار بكل حب وتفان أبا الحسن أيضا […] “أبو الحسن الماوردي” هكذا يسمى صاحبنا، لعله تماهى معه، فأصبح إماما مربيا وعالما في السياسة و أمور الحكم، ألا يريد أبو الحسن الجديد هذا أن يغير الحكم و الحكام؟حري به أن يكتب “الأحكام السلطانية”مجددا طالما يحدثنا عن الإمارة و الخلافة و أحكامها و الوزارة و أقسامها و شروطها وإمارة الجهاد »ص 21.
يبرز هذا القول التعارض الذي أخذ يتنامى داخل وعي” إدريس”وهو يجري مقارنة بين العالم الجليل “أبو الحسن الماوردي” صاحب كتاب “الأحكام السلطانية”، وبين أبو الحسن الجديد الذي لا يملك في جعبته سوى أن يكون حارسا على سلوك الشباب وموجها دون أي علم.
يفتح هذا الانتقاد باب التحرر التدريجي في عقل” إدريس” الذي مل من الازدواجية التي ميزت سيرة هؤلاء الإخوة وهم يدخلون السجن بعد أن سحبتهم دورية من الأمن وهذا بعد اثارتهم للشغب، يصف إدريس ما حدث فقال:«كانت الساعة منتصف النهار عندما رموا بي في زنزانة، وجدت أبا الحسن، وجدت مبروك الذي كان أفاقا سارقا قبل الهدي، وجدت الكثيرين ممن أعرف و لا أعرف، أردت أن أقول شيئا لأبي الحسن أومأ لي أن أبتعد، فهمت أنه لا أحد يعرف الآخر ولكنني الأصغر لابد أنهم لن يقتلوني ذبحا، انتظرت أن يفعل أبو الحسن شيئا أن يصرخ بالجيش الإسلامي فيطبق على الملثمين، يبدو أنه لم يعد من جندي سوايا […] ربت الضابط على كتفيه فأفرط في إظهار الخوف.قط بحجم دب.
ـــ ماذا يا حشاوش ألن تحلق هذه اللحية؟
ـــ سأفعل تس…..أنت…..ت……
كأن أبا الحسن أراد أن يشرح للضابط ضرورة حلق اللحى، و الظروف العامة للبلاد ، لكن الضابط انفجر في وجهه:”من تكون لتعلم الآخرين ما يجب ومالا يجب أيها القبيح، سيأتي يومك وسأقتلع لسانك، تتكلم عن الدولة و الطاغوت و الجهاد وأنت الأسوء تعلم كيف تنجح وأطع والدك… إني أحذرك في المرة القادمة… أيها الرخيص”» ص 42.
سقطت أولى الرموز الاجتماعية في مخيلة” إدريس “، وهي المتعلقة بشخصية”حشاوش” الذي تحول إلى “أبو الحسن “، حيث سيشغل هذا الأخير بالدور الوعظي للمجاهدين الصغار الذين هم وقود الثورة والجيش الإسلامي والمرجعية الدينية والسياسية، حيث هوت صورته أمام “إدريس”
، وبقية الشباب حينما رضخ طوعا لسلطة الضابط الذي سحب كل الهالة، التي كان يبديها؛ فإذا به يتحول من صورة زعيم الجماعة إلى صورة المغضوب عليه بسبب الأفكار المتطرفة التي تخل بنظام الدولة و تهينها وتجعلها عرضة للفوضى يقول” إدريس”وهو يشاهد السقوط الحر لـ” أبا الحسن”: «أخيرا…أخيرا أرى أبا الحسن غير أبي الحسن، أخيرا يتهاوى إلى قبحه، تحطم الزلم، راقني الضابط السافر محياه وسجل لي نقطة، كل الذي أردت كان لي، أبو الحسن لا شيء، أريد الآن أن أصفعه» ص 24.
هذه هي الصورة الفرعية الأولى التي توضح الدور الأساس الذي لعبه “أبا الحسن” في حياة” إدريس”، حيث برز التأثر الشديد به كمرشد و كمعلم و كمقرر للجماعة، ينير عقول الشباب /الجنود الصغار للالتحاق بالجبل عبر التجنيد الديني الذي مارسه، هذا التأثر الذي أعقبه سقوط ساحق لصورة “أبا الحسن”، وهذا بعد أن أدخل للسجن و حلق شعره كعلامة على إزالة كل رمز من الرموز الشكلية الخاصة بمنتسبي التيار الإسلامي، وبذلك تنغلق حكاية” أبو الحسن” مع” إدريس”حيث سيبتعد ادريس عن الجماعة ويبقى بمعزل عنهم وهذا بعد خروجه من دائرة التأثير الديني إلى دوائر جديدة.
*الصورة الفرعية الثانية/الصورة الأمنية:
مثل المشهد الذي تعرض له “إدريس” رفقة” أبا الحسن” صورة من صور الزيف الذي سيطر على هذا الأخير وهو يلج باب الزنزانة، فإذا به ينقلنا إلى الضفة المجتمعية التي ستظهر على مسرح الرواية وهي المتعلقة بشخصية جديدة وهي شخصية الضابط “عبد الرحمن ” الذي كان الشخصية المنقذة لإدريس للخروج من مستنقع الاخوة المجاهدين، حيث سيكون “عبد الرحمن” الوجه الذي معه سينجلي التيه النفسي والضياع المجتمعي الذي ميز مراهقة” إدريس”، يذكر” إدريس “الموقف الذي جمعه بـ” عبد الرحمن” وهو يساق إلى الزنزانة فقال:«خارجا كان عبد الرحمن جارنا الضابط زوج وردية الطبيبة التي أغرقتني بأفضالها وحبها،لم يكن لعبد الرحمن أولاد، أحب كل شباب الحي حتى “الخوانجية”منهم، لم يكن حاقدا عليهم، رغم أنهم لم يكنوا له الاحترام بل أصبحوا يتوجسون منه، رأيته يحمل قناعا كالذي يكسوا به الملثمون وجوههم أكان منهم، هل هو طاغوت؟ أمجرم عبدالرحمن؟و”حشاوش “أبو الحسن تمثال ثلجي لا يصمد أمام الضوء، على أي أرض أقف؟روعتني نظرات عبد الرحمن الطاغوت،خفت أن أتبول أنا الآخر تحتي،حدق في طويلا قبل أن يسألني إن كنت جائعا بأسلوب فهمت من خلاله أننا سنغادر المكان.
ـــ عمك…! يعميك ويسلط القضاء عليك..قبل أشهر لم أكن كذلك.
ـــ لكنني تغيرت،صدقني أنا لا أتردد على المسجد و لا أعرف هؤلاء،أعتذر لقد أخطأت.
ـــ يا بني هؤلاء ليسوا شيئا، إنهم شرذمة من المحبطين لا غير وأنت مكانك في العلم وطاعة والديك،مازلت صغيرا على البوليتيك و تكسار الراس.» ص 25.
مثل الضابط” عبد الرحمن” المرجعية الأمنية التي أبرزت الجو الحانق الذي تمر به البلد حيث كرست السلطة الدينية صورا مشوهة لكل عناصر الأمن واعتبرتهم طواغيتا وهم يحكمون الخناق على نفوس الشعب الذي يرغب بالعيش بكرامة ورفاه؛ فأضحى الخطاب السياسي مصبوغا بالخطاب المضاد وهو الخطاب الديني، وهذا ما وعاه ذهن “إدريس” وهو يقف كالتائه هل يستمر بالانتماء للجماعة أم يقف في صف السلطة الأمنية الممثلة بالجار الضابط “عبد الرحمن”.
سيشكل “عبد الرحمن “ركيزة من ركائز التحول المجتمعي الذي سيصاحب كل خطوة سيخطوها “إدريس” نحو المستقبل الذي بدا غامضا ومريبا خاصة مع انفضاض الجماعة، حيث عاد الجو إلى الانفتاح على المشكلات التي صاحبت وعي” إدريس”،إذ برز الجانب العاطفي لهذا الأخير بعد أن أحيل على الحياة العملية، ففي تلك الفترة حاول” إدريس “أن يجد عملا وهذا بعد أن وعى أن المال سيصنع صورة ساحرة أمام الحبيبة التي انتقلت إلى الثانوية.
*الصورة الفرعية الثالثة/المشهد الجنسي:
مثلت” وردة” أول حب يغزو قلب” إدريس”، وهو الحب الذي أنعش مخيلته والذي بقي المكسب الوحيد الذي ظل يحلم به وهو يتخيل “وردة”، لكن حدث أن تغيرت “وردة” تجاه” إدريس”، وأصبحت مع ابن العم” الهاشمي” الشخصية المضادة لهذا الأخير، يصف “إدريس” التعلق الذي عاشه مع وردة فقال:«بدأت أنسلخ تدريجيا عن الآخرين،ركزت تماما مع وردة لا نلتقي إلا سرا لكنها تهتف لي أو أهتف لها،كان الأمر ما بيننا متعة ولذة ورغبة…» ص 27.
أضحت كل هذه الرغبات التي يشعر بها” إدريس “دون جدوى وهذا بعد أن قررت وردة الابتعاد، لم يرض” إدريس” بهذا الفراق وألح في طلب مقابلتها وهذا بعد أن وصلته أخبارها وخروجها مع أحد غيره، لقد جن جنون “إدريس” وهو يرى حبيبته تسلب منه، وهو الذي عاش معها أجمل لحظات الحياة، لقد اشتدت رغباته احتداما ولذلك قرر أن يعرف ماالذي جعل” وردة” تتغير نحوه فقال:«ألحيت في الاتصال بها،هددتها و أسمعتها صوتا لم أعرفه في من قبل،كنت وقحا و فجا و عنيفا فالتقينا في الغد، ليست راغبة في الحديث،سألتني أن أؤمن لها مكانا نختلي فيه بعيدا عن الهاشمي،ذهبنا إلى بيتنا قلت لأمي أن أحد الرقاة سيدخل غرفتي فحبست نفسها بالمطبخ[…] دخلنا الغرفة أغلقت الباب لتوي ألتفت حتى انقضت علي جموحة أمسكت خاصرتها تأملت وجهها الأرجواني وهو ينفلت من ناظري و دفعتها إلى السرير.قلت في نفسي هذا ما علمك اياه الهاشمي، ولم تكوني لتعرفي منه شيئا معي، ألتهمتها زبدة و جبنا و شهدا وفاكهة وأبا، ناعمة لكنها مزقتني…دافئة لكنها جمدت الدم في عروقي، من أين تعلمت هذا العمل المثير قبحا وروعة؟ » ص 32.
كان هذا هو المشهد الذي صور لنا الحالة التي عصفت بـ” إدريس” وهو يرى فتاته تبتعد عنه وتقيم علاقة حب جديدة مع” الهاشمي” فقرر أن ينتهك تلك الصورة فدعاها إلى بيته الذي سيكون فيه الانتقام من” الهاشمي” عبر الاعتداء على وردة و إجبارها على الرضوخ لفعل الجسد، يتذكر” إدريس” وهو غارق في اللذة الدروس التي كان” أبو الحسن” يتفنن في إبرازها «أتذكر الآن دروس أبي الحسن التي كانت تجعلني أحتلم،فقه الفراش الايروتيكي الذي عمر في رأسنا نحن المجاهدون الصغار دون باقي الأحكام، أنهيت اللعبة قالت لي:”أخرج الآن لم يعد بيننا شيء” استسلمت وتركتها تنصرف بعد أن دفنت القرطين في حقيبتها البيضاء،أمي ظلت مرابطة بالمطبخ…وسألتني لاحقا:
ـــ ما كان رأي الراقي،عين أليس كذلك؟
ـــ أجل قال أنها عين قريبة رأت أشياء جميلة فسلبتها.
ـــ يا لطيف يا ستار.
ـــ لا تقلقي فقد تزول قريبا…
مسكينة أمي المبعثرة، مسكينة وردة، مسكينة خطاي » ص 32.
يفتح هذا المشهد الباب سريعا على الازدواجية التي ميزت الخطاب السردي الخاص بهذا المشهد ففي خضم الفعل الجنسي الذي ميز العلاقة بين “إدريس” و”وردة “بفعل الانتقام يبرز الخطاب الانتقادي لماكان يعتقده ” إدريس” وهو يتعاطى أولى الدروس التي كانت الجماعة تثير بها الغرائز وهذا حين تعلمهم فقه الفراش الايروتيكي وما ينبغي أن يحدث حينما يختلي الشباب فيشبعون غرائزهم وهذا ما جعل” إدريس” يحتلم في أحايين كثيرة بفعل دروس الجنس الخاصة بفئة المراهقين /المجاهدين الصغار ذو الفورة الجنسية.
امتزج هذا المشهد الجنسي (عملية الاعتداء )مع الخطاب الديني المزيف(الراقي الطارد للعين والسحر) الذي صاحب عملية دخول “وردة” إلى منزل “إدريس”، ونظرا لأن الفعل محظور في المجتمع، فقد أصبغه الروائي بطابع انتقادي مستنكر ومزجه مع بعض الممارسات الشاذة مجتمعيا والتي لخصها” إدريس” بقوله أن الراقي هو من سيشفى”إدريس ” من العين التي أصابته بفعل الآخرين الذين هم سبب المصائب كلها.
*الصورة الفرعية الرابعة /الصورة الإنسانية المضطهدة:
ينقلنا “إدريس” إلى العالم المحيط به فمن جهة يستذكر ما عاشه مع الإخوة المجاهدين والذي مثلته شخصية” أبو الحسن “وبين ما عاشه مع الجار الضابط”عبد الرحمن “زوج” وردية” الطبيبة العاصمية التي ستلعب دورا هاما فمع ما سيعيشه “إدريس”من أزمات بدءا باغتيال” عبد الرحمن” وموت الخال” يحي”، وبين ملاحقة الشرطة للجماعات المتسببة في الفوضى والقتل عمدا لكل موظف أو خادم للدولة، ففي جو مكهرب تسوده الاغتيالات المتكررة تبرز الأزمة النفسية لـ” إدريس” وهو يتساءل عن معنى كل هذا الذي يحدث ولما يحدث:«في البيت أمضي وقتي في التفكير في فراغ لا مثيل له،أمي تطلق لحنا جنائزيا من مطبخها […] لحن أمي الجنائزي يردد اسم يحي، وكان يحي ينزل علي فجأة صديقا ورفيقا و مستمعا وناصحا وحاميا لي من الجميع و مني، يحي يأخذ الآن كل الفضاء له ولا فضاء لي إلا في يحي، أخرج من البيت جريا، لم أجر منذ مقتل يحي…أعود على الطريق ذاتها، في لحظة ما أرى الموت، أتصبب عرقا ثم أحترق ثم أجف ثم أييس، ثم أتوقف عند عتبة الموت.لم يعد بوسعي الجري أكثر، تحت جسر حجري قديم أتمدد، أشك في قدرتي على البقاء حيا إلى غاية وصولي”قبب العطايا”، مقبرة قبب ستكون مأواي الأخير، آسف لأني سأموت دون أن أمنحني لحظة اطمئنان، آسف لأني في موتي هذا لا أملك خيارا لتقدير وصية» ص 121.
كان هذا المشهد المدخل الأساس للتيه والضياع الذي عاشه” إدريس”، ولم يستوعبه وهو يحاول أن يجد تفسيرات لكل هذا الخوف والرهاب الذي غطى على كل ذاته التي عانقت الموت و دعته إلى أن يبحث عما سيفعله وهو يشاهد بأم عينه كيف اغتيل خاله في “قبب العطايا”، هناك بدأ المشهد الجنوني بالاكتمال والذي غرز أنيابه في كل ذاكرة” إدريس”، ذاكرة بقت تبحث عن جدوى الحياة و قيمتها في ظل خرابات الحياة التي تنسحب منه تدريجيا.
مثل موت الخال “يحي” صورة من صور العبث واللاجدوى لدى إدريس وهو يشهد مقتله من طرف مجهولين فما الذي حدث؟
يسرد “إدريس” ما حدث في ذاك المكان المسمى بـ”قبب العطايا ” حيث يقيم” يحي” الخال الأخرس والوحيد للجد “مومن”،و هناك تتماهى الطبيعة مع الفراغ، حيث يصبح الصمت هو العالم الذي سيحتضن” إدريس” بكل آهاته و مشاكله النفسية المتعددة، ففي عالم الخال” يحي” تبدأ فصول العنف والخوف والهرب من الموت،«بعد مسافة قصيرة وجدت نفسي في حصن “الحرس البلدي”تركني الوحوش هناك وطلبوا من الحرس البلدي أن يرسلوني في الصباح إلى بيتنا،شعرت أنني نجوت ولكنني تأكدت أنهم سيعودون لخالي،بكيت سرا بلا دموع […] تجاوزت الرعب خالي قتله هؤلاء وتركوه مرميا أمام البيت في قبب العطايا» ص 39.
في” قبب العطايا” لم يكن هناك غير “يحي” الفتى الطفولي صاحب المنزل الصيفي والذي مثل الحضن الدافىء لـ”إدريس “فهو منفضة لأوجاع هذا الأخير، فمعه يكتمل مشهد الطفولة المعذبة والتي ستكون شاهدة على ما حصل من جرائم في حق الأبرياء والمستضعفين.
تماهت شخصية” إدريس” مع الخال “يحي”، هذه الشخصية الصامتة عضويا و المتكلمة عرفا وفعلا و ممارسة فمعها عرف” إدريس” معنى الحياة والاحتواء فـ”يحي” هو تلك الصورة الملأى بالحنين، بالعذوبة والذكاء، «أشعر دائما بأن سنة أو سنتين فقط من حياتي كانتا جديرتين بالبقاء كأبد، و من بين كل الناس الذين سأمر عليهم علق يحي كأهم طفل سرمدي الطفولة رغم غضبه و كبره وخطاه و ابتعاده و اقترابه،رغم أحلامه و كوابيسنا ظل يحي يملك سحنة الطفل» ص 33.
شكل حادث مقتل” يحي” وجها من وجوه المأساة الإنسانية حيث جاء الوحوش إلى ذلك المكان الخالي وفيه مارسوا أبشع جريمة في حق الإنسان، يصف” إدريس” ما حدث له بعد حادثة الاغتيال غير المبرر فقال: «استعاد مستضيفي قدرتهم على الحركة مع أول خيوط النور، وذهبنا إلى البيت لنقف على جثة خالي يحي، لم أجد الجثة هناك وليس داخل الدار!!
بدت لي أعشاب و نباتات يحي حزينة وخضرتها تتحول إلى حمرة أين يحي؟ لا جسد ولا صوت في مقامه؟» ص 39.
في مقام مقتل” يحي”شاعت رائحة الموت، واصطبغت نباتات يحي وزهوره بلون الدم، وفي ذلك المكان انهار “إدريس”، ولم يعد يتذكر ما حدث، أصيب” إدريس” بانهيار عصبي وعلى إثره غاب عن وعيه ودخل متاهة اللاجدوى؛«جريت وجرى العقل في الاتجاه الآخر، أغنيات و صرخات وصور، ضحكات و أشعار و قرآن، قررت أن أكون القتيل و القاتل وأن أنأى عن الجميع، في الليل، في المرحاض،في الشارع، في عمقي، وفي كل الحالات كنت أبكي بعنف وأشعر بالخوف، و لكنني أتمسك بالحياة، صوت ما داخلي كان يقول لي:”قل أنا أريد أن أعيش” كنت أقول “قليل من الحياة،… قليل من الحياة “» ص ص 39ـــ 41 .
كان هذا هو المشهد اللإنساني الذي تعرض له” إدريس”، وهو ما أدخله عالم الجنون، واللاوعي، حيث ستشتد أزماته النفسية فيفكر في الموت و في الانتحار كحل لكل ما يعيشه، وقبل أن يصل لمرحلة العبث، سيجرب” إدريس”كل أنواع التيه والضياع فيعاقر الشرب و تصبح قناني الخمر رفيقا دائما لحياة كلها صخب و شذوذ وهروب من النفس ومن الآخرين فـ«في الثامنة عشر من عمري أشرب وأدخن و أكيف رأسي، لا يعرف والدي سوى فصل التدخين من كل الحكاية. أتعبتني الحكاية، أتعبتني حاكيا و محكيا… لم يتغير شيء، الرصاص مازال إيقاعا وحيدا لليالي المدينة، جارنا عبدالرحمن مازال ضابطا، أبوالحسن اختفى منذ شهرين تقريبا، لعله سيعود تاجرا كبيرا في الذهب أو الخضار، يحي لم يعد موجودا إلا في ذاكرتي التي تبكيه كلما أردت تشتيتها بالكحول، أو الكيف، اثنان يشربان نخب يحي، أنا في فقدانه العظيم، و جدي الذي لم يتحمل أن يكون ابنه الوحيد أخرسا»ص 43.
يستعيد”إدريس” بكثير من الحزن والألم والوجع قسوة الحياة التي يعيشها وهو يشرب و يدخن ويكيف دماغه التائه بين صورة يحي المفقودة، وبين أناه المعذبة التي تتعقد خيوطها، وبين الجو العام الذي طغى الرصاص على ساحاته وبين الأحلام البسيطة التي حلم بتحقيقها.
*الصورة الفرعية الخامسة /الصورة الأمومية:
عاد “إدريس “إلى عالم الحياة وهذا بعد أن مر الزمن تدريجيا ، وهذا بفضل العائلة وكذا” وردية” التي ستكون الرفيقة والأم الثانية و الجارة التي ستتشابك حياة “إدريس”بحياتها، “وردية” التي معها تبتدأ الحياة من جديد، ستكون “وردية” رفيقة لباقي الحياة ومعها سيتغير مصير “إدريس” فماذا سيحدث؟
يذكر” إدريس” ما حدث مع “وردية” وهي تتعرض لأبشع جريمة وهو مقتل زوجها “عبد الرحمن ” من طرف مجهولين كانوا يتقصدون قتله، فبعد أن لف الحزن سكان الحي بمقتل” يحي” جاء الدور على الضابط “عبد الرحمن “؛ كان حادثا لم يتوقعه” إدريس”، وتساءل في قرارة نفسه: كيف يموت “عبد الرحمن “؟!
عبد الرحمن الضابط الذي أحب كل أبناء الجيران، و كان المرشد الكبير لـ ” إدريس” في زمن المحنة والفوضى، يصف” إدريس” ما حدث حين تم اغتيال عبد الرحمن:«صاح الوحش،أهربي وردية، قال عبد الرحمن لم تهرب بل هجمت على الوحش بحقيبتها،نزل بقية الوحوش فيما ضرب العملاق وردية لتسقط مغشيا عليها” في النهاية لم يجد أحدا من الشاهد الذي نقل هذه التفاصيل؟ حتى الشرطة لن تعثر على صاحب الرواية الأولى،فقط المتن دون راو أو سند…أشرب أكثر…عبد الرحمن لا يحمل سلاحه في المسجد و المستشفى، أشرب أيضا…وردية كانت أما رؤوما لطالما نمت على حجرها وهي تغني لي ابنا الجيران، عبد الرحمن يا عبد الرحمن…اعتقدت مرة أنني أكرهه، لكنني أكتشف الآن كم أحبني و أحببه، أتي على القارورة كلها، أخرى فالفجيعة أكبر » ص 45.
بهذا المشهد تشتد الأزمة النفسية لـ “إدريس” وهو يرى ما فعل المجرمون بــ”عبد الرحمن” وبـ”وردية”، تلك المرأة الشجاعة التي صمدت بوجه الوحش الذي أسقطها أرضا، والذي كان هدفه قتل عبد الرحمن.
لقد شكل حادث مقتل”عبد الرحمن “الأزمة الجديدة التي أخذت تكبر بداخل إدريس وهو يتذكر الأفضال التي أسداها هذا الأخير له، فعبد الرحمن هو الشعاع الذي أنار عقل إدريس في زمن الظلام ، وهو المنقذ له من الدخول لمتاهة الجهاد والقتل العمد لكل رموز الدولة، التي أضحت الركيزة الأساسية لضرب أمن الدولة واستقرارها «غرق بيتنا في الحزن لغياب عبد الرحمن،كما لم يفعل في غياب يحي،ربما لا أحد يشعر بغياب يحي لأنه كان صامتا […] أبي كان يبكيه ذات فجر عقب الصلاة سمعته يدعو لجارنا بالنجاة ويقول”يا برنوس المساكين يا عبد الجنة”،يناسبني كل هذا الحزن و يسمح لي بالبكاء،بالتباكي ربما أستطيع أن أفك عقدة الصمت التي لازمت عيني منذ الصغر،ألهمني الجو رغبة في السفر أو لعلها رغبة في الهروب أحسست بالبرد،أردت لو أنام و أتغطى جيدا و أنسى نفسي، وأنسى العالم، عادت وردية وحيدة،ولم يعد بعد عبد الرحمن، رفضت النزول عندنا و طلبت مني أمي أن أبقى معها البقاء مع وردية يعني التخلي عن عصام،لم أجد بدا من الموافقة.أمضيت شهرا لديها حكت لي أجزاء الأجزاء عن عبد الرحمن، عن زواجهما أثناء دراستهما بالعاصمة،عن رفضه الزواج من غيرها رغم سعيها لذلك،الليل أمضيه أصغي لحكاياها ونحيبها » ص 45.
كان حادث مقتل” عبد الرحمن” كاشفا لجوانب متعددة للجانب النفسي الذي ميز شخصية “إدريس” التائه والخطاء والذي حقد على الجميع، والذي عرف من خلال هذا الحادث الحب الحقيقي الذي لم يكن يعرف مداه ولا أثره في نفسه وهو يستعيد بعض اللحظات التي تبرز العلاقة الحميمية التي جمعت الطفل الصغير إدريس بزوجة عبد الرحمن” وردية “المرأة التي احتضنت كل حزن زوجها برعايتها وارشادها لهذا الابن الذي لم تنجبه.
يصف إدريس الوقت الذي أمضاه برفقة الأم الرؤوم” وردية” فقال:«لم تتأزم كثيرا هذه المرة، أفاقت سريعا كنت أخشى أن تنهار بالسرعة التي أفاقت بها.تعمل كل يوم، تقاوم الذكريات الحارقة و تتمعن في جمال الذي بينها و بين الشهيد، علقت صورة لهما قبل الزواج بغرفة الاستقبال، كانا يافعين، جميلين في ضمة لا تليق إلا بجلال الحب الذي بينهما، بجلال رجل شهم كعبد الرحمن» ص 49.
يسرد “إدريس” حلاوة اللحظات التي جمعته بوردية زوجة عبد الرحمن، وهو يذكر ما فعله عبد الرحمن قبل أن يتعرض للاغتيال، حيث اكتشف جلال الحب الذي ربط بين وردية الفتاة العاصمية و عبد الرحمن الجلفاوي، الذي سيكون ضحية للجنون الذي سيطر على المشهد الوطني، فمن خلال هذه الصورة ستتعمق الأزمة النفسية لـ”إدريس” وهذا من خلال حادثة ستغير مجرى حياته بالكامل، والتي سترتبط بحادثة اغتيال” عبد الرحمن”، حيث سيلتقي “إدريس “بمرسال الجماعة الإسلامية وسيطلب منه حفظ أمانة واخفاؤها من أعين الشرطة لمدة زمنية قصيرة.
ستشكل هذه “الأمانة”(الأموال المهربة) عبئا جديدا لـ” إدريس”، وستدخله هذه الأخيرة متاهات التحقيق والاستجواب و كذا السجن المفترض الذي تخيله، لكن كل ذلك مر بسلام وأمن بعد أن حكى كل ما جرى معه لوردية التي ساعدته في التنصل من الجماعة الجهادية التي كانت بؤرة من بؤر الإرهاب، وقد كانت خلايا الأمن ترصد تحركاتها،« قررت أن أعود إلى الجلفة حيث لا طائل من بقائي شفيت تماما أو قليلا وأرويت عيني من وردية إذ لا أعترف لها بحكاية الأمانة.أمام الباب تودعني و توصيني بنفسي، أرتد من خططي منهارا، حكيت لها كل شيء،اعتقدت للحظة أنها ستذبحني،أنا الآن أحمل أشياء أعدائها وأعدائي أيضا، حضنتني وبكت.كم هي رائعة وردية وهي تربت على ظهري وأنا مستلق كطفل بريء أحشو وجهي بحجرها،هدهدتني حتى آمنت ولم أعد أخشى أحدا و أنا داخل وردية.
ـــ ستذهب غدا إلى الجلفة،تزور مكتب رئيس الأمن.
ـــ ماذا أقول له؟
ـــ لن تقول شيئا، أنا سأكلمه في الأمر.
وصلت الجلفة خائفا من قدر الموت أو السجن، في الطريق انسقت خلف صمتي، نزلت أتصنع هدفا ولم يكن لي هدف » ص 61.
بعد وصول “إدريس” إلى مدينة الجلفة انتابته مجموعة من الهواجس بخصوص الأمانة التي وضعتها الجماعة في حوزته، فاتجه إلى منزل جده بقبب العطايا وهناك فكر كيف يحمل تلك الأمانة لمركز الشرطة، فأعاد التفكير واتجه لمنزله، وفي الغد توجه لمدير الأمن الذي استقبله بمكتبه وهناك انكشفت حقيقة الأمانة، وكانت مبالغ ضخمة من الأموال،«لم أر في حياتي هذا الكم من المال ملايين و ملايين تراجع النباح و العواء و توقف قلبي تماما و لم أعد أتنفس كل هذا المسلوب من المساكين كان بحضن يحي، مال الأبرياء مثلي، أفكر في الذي يجب، تتدافع الأفكار حتى لا أعرف في أي موضوع أبحث،أضيع»ص 63.
مر التحقيق مع مدير الأمن بشكل طبيعي، حيث اطمئن منه”إدريس” وصار حرا بعد أن أدلى بمعلوماته حول الأكياس التي خبأها في مكان اغتيال” الخال يحي”بـ” قبب العطايا “وبهذا تنغلق هذه الأزمة ويعود “إدريس” حرا من عبئها.
هذه هي أهم اللوحات المشهدية الفرعية التي شكلت الصورة المجتمعية لرواية “باردة كأنثى”، ننتقل الآن إلى استجلاء الصورة المشهدية الثالثة وهي الصورة النفسية فكيف تشكلت هذه الصورة؟ وكيف برزت الحالة النفسية لإدريس؟ ما تجليات الأزمة الوجودية لــ” إدريس”؟
ثالثا: الصورة المشهدية النفسية.
يمكن القول بأن شخصية “إدريس” قد سيطرت عليها مجموعة من اللوحات التي توضح الأزمة الوجودية التي يعاني منها، وقد ارتبطت هذه الصورة بمجموع ما يعرف بالحالات النفسية العصابية التي كانت نتيجتها الدخول في دوامة من عدم الاستقرار النفسي، حيث تعددت وجوه الأزمة بين الخوف المتراكم ، مرورا بمحاولة الانتحار التي باءت بالفشل، وصولا إلى بدايات الجنون؛ ومنه نتساءل: كيف تجلت كل تلك اللوحات؟
*اللوحة الأولى:
يمكن القول إن هذه اللوحة ارتبطت بالتراكمات النفسية التي شعر بها “إدريس” وهو في عمق الفشل الذي وضع به، والذي ازداد وكبر شيئا فشيئا مع كل انهيار نفسي وفشل حياتي، حيث بدأت أولى مظاهر هذا الفشل منذ لحظة خروجه من الدراسة والتحاقه بالحياة العملية، وفقدانه لوردة حبه الأول بعد نجاحها ودخولها للثانوية مع ابن العم الهاشمي الذي سيتزوجها بعد ذلك ، ودخوله في متاهة الجماعة الإسلامية وخروجه منها، بعد تلك الليلة التي قضاها في الزنزانة، يصف “إدريس”ماحدث معه بعد خروجه من السجن بمساعدة الجار “عبد الرحمن “: «ـــ الحمدلله على سلامتك خويا ادريس ماما رايحة تهبل عليك.
ـــ لن يجن أحد بعد اليوم يكفي الجنون الذي يعصف بالعالم. بدأت أشعر أنني كبرت و صرت مطلوبا لدى الحكومة، و عاشقا و الأهم أني شاهد على سقوط حشاوش أبي الحسن.[…] مر أسبوع على الحادثة نسيها أهل الحي و أطلق سراح البقية بما فيهم أبو الحسن حليقا، وكان ذلك بفضل توصية عبد الرحمن، أصبحت أشعر بكثير من الحياة.صحيح أن أخبار الموت كانت أكثر من أخبار الولادات، الأفراح و الأعراس لم تعد سوى طقوسا سرية أو ولائما محروسة.دوي قنبلة، صوت رصاص، عويل وصراخ هو المشهد العام » ص ص 26ــ 27.
شكلت حادثة التحقيق الذي تعرض له” إدريس”أول منعطف في حياته، حيث صار اسمه مطلوبا لدى جهات الأمن، لكن تدخل الجار “عبد الرحمن” جعله يغير من مسار حياته الخاطىء، لكن بعد تلك الحادثة التي نسيها أهل الحي بسرعة ، يعود التشتت والحيرة و الخوف من جديد ليسكن قلبه وهذا بعد حادثة مقتل الخال “يحي”، حيث تضيق الحياة به فيغرق في متاهات السكر والتدخين، فيفكر بالرحيل بعيدا فـ «بعد شهرين من التشرد أنهكني السعال.أصبحت المرآة العجيبة رفيقة المنتهى تحدثني عن ذوبان ملامحي خفت أن تنكرني هذه المرآة، قادتني الخطى المنهكة إلى مرتفعات العاصمة،[…] أردت أن أراها قبل أن أذوي تماما لا أن تراني،كنت فاغر الفم متعبا لا أكاد أحملني،[…] لم أحتمل الإنتظار أمام المكان المقدس، فكرت في الانتحار، راودتني الفكرة بكثافة حتى أتت على تركيزي، أتشبث بلا شيء، ألتفت لأحدد دربا فإذا بها تراقبني »ص 73.
لقد انهار” إدريس” تماما بعد فشله على كل المستويات الحياتية والعاطفية، فلم يجد من بد إلا أن يلقي بنفسه في متاهة الموت، وهو على الصخرة التي كانت الملجأ في كل مرة من العصف النفسي ، حيث هناك تتصاعد الأفكار وتتعمق الأزمة ويعتصر القلب وتأخذ المرآة العجيبة دور الحاجز بين الذاتين ذات” إدريس” المنهكة، وذات “إدريس” الراغبة في الحياة والنجاح.
تنشطر الذاتين(ذات إدريس المتعلقة بالحياة /ذات إدريس المتعلقة بالموت) إلى شظايا نفسية تتأرجح بين الخوف واليقين، بين الحياة والموت، بين البقاء والرحيل، بين الاستقرار وبين التغيير، بين العودة واللاعودة.
اللوحة الثانية:
ترتبط هذه اللوحة بالتأرجحات الجديدة التي طفت على سطح ذات ” إدريس”، وهو ينتقل من حالة إلى أخرى وهذا بفعل التحولات التي وقعت معه بعد ذهابه إلى مدينة الجزائر العاصمة، ورجوعه إلى مدينته بعد الفشل المريع الذي حصل معه هناك، وهذا بعد تعرفه على حبيبته التي سيقيم معها علاقة حب طويلة دامت أكثر من أربع وعشرين شهرا والتي انجر عنها الفراق بالنهاية وهذا بعد فك العذرية الخاص بها وخطبتها من طرف ابن عمها الذي يقيم بفرنسا و سترحل معه.
في تلك الفترة أخذت الحالة النفسية لـ”إدريس” تتأرجح بين التوتر والهدوء، حيث يصف “إدريس” ذاته انطلاقا مما حصل معه في مشهد مملوء بالحزن والكآبة وعدم اليقين، إنه التيه الذي لطالما عاد وغرز أنيابه فيما تبقى من تفكير و إحساس دفين لـ”إدريس” فيقول:«مرت أشهر وأنا أتعرف على نفسي كل يوم بشكل مختلف، ألبس أكثر من ثوب فلا يناسبني إلا ثوب التيه، هي كانت بوصلتي و أنا تيهها الذي لا يمنحها قدرة التوجيه، انخفضت وتيرة الزمن وتراجعت سطوته على خطايا، نسيت تماما من أنا
وانخرطت في عصر جديد ليس له ذاكرة حجرية، مرة كنت أعبث في فراشي عندما مر طيف “العاشقين الخجولين”شعرت أن الحجر أصل الإنسان، كان هذياني صادم بالنسبة لها» ص 85.
لقد أعاد “إدريس”رسم ذاته مجددا وهذا بعد أن شهد استقرارا مؤقتا حيث حمل معه بقايا الإحساس بإمكانية العيش والنجاح و التخطيط لمستقبل واضح المعالم مع هذه الفتاة التي كانت بوصلة لما سيأتي من أحداث، حيث بدأت معالم الفرح والمتعة تتشكل في محياه، فإذا بالزمن يستفيق
و إذا بالكارثة تحل إثر خطأ وعدم تقدير في الحساب، حيث تتأخر الدورة الشهرية، ومعها يقع المحظور وتبدأ فصول جديدة من الخوف والتوتر و اليأس.
هنا يعود التيه من جديد وتصبح الحياة سوادا و الجسد خطيئة و الجنون مستقرا على كتفيه وداخل روحه المعذبة فيعود إلى العبث وشرب الخمر و التيه في شوارع العاصمة و «أعود مجددا إلى روشيه الموت.الموت جالس هناك في تأهب ونهم عشرات الآلاف من القتلى الذين قدمهم العبث في السنوات الأخيرة قرابين للظلام لم يسدوا حاجته، ولكنه لم يلتفت إلي ولا انخدع بوجهي الحزين الملامح.الموج أعلى مما تصورت، تهتز الصخرة العظمى ولا أهتز فوقها، يلتطم الموج بالبنايات و لكنني أنا إدريس لا أجرؤ على رمي في هذا العجاج أخشى عليك، ترى هل أنت بخير؟ لديك أهل باب الوادي ربما زرتهم يوم الطوفان؟ لعلك تتألمين لفقد أحدهم؟» ص 107.
اللوحة الثالثة:
في هذه اللوحة نعود إلى حجر الزاوية التي انبنت عليه الحياة النفسية لشخصية “إدريس” وهو المشهد الذي يبرز الأزمة الوجودية التي يعاني منها وهو واقف يتأمل حياته وخيباته و فشله وأخطائه المتتالية والتي انغرزت في روحه المعذبة التي سكنها الخوف والخطيئة و الضمير الذي كان هو الصوت الجنوني الذي يستفيق مع كل خطأ جسيم يرتكبه “إدريس”.
يتساءل “إدريس”عن ماهية الموت، وهو يتجسد على هيئة إنسان خيالي فيقول :«لست أدري لماذا؟ طالما تصورت أن الموت يترصد الوحيدين، فكلما كنت وحدي حدق بي، لأجل هذا تجنبت طوال طفولتي البقاء وحيدا ليس رغبة في الآخرين و رفقتهم، اطلاقا فأنا لم أعثر على أنس في أحد، لا أحد على الإطلاق. خيل لي أن الموت سيتردد و يؤجلني إذا صادف أن كنت مع شخص ما، أي شخص، بدأ هذا الشعور يضعف تدريجيا عندما رأيت كيف يموت الناس جماعات وفرادى و لا يبالي الموت بالرفقة و لا الخلوة.رغم أن سلطان الموت امتد من حولي، لكنني كنت ممتنا، على الأقل منعني ذلك من الفردانية التي سأنزع إليها لولاه.كأن العبث الذي داخلي يرفع شعار”فليعش الموت”؟! » ص 7.
لقد تصور” إدريس” أن الموت ماهو إلا خيال يلبس كل مرة أقنعة تتراءى على وجه المرآة التي فيها تنعكس المخيلة، ولذلك حببت له الوحدة بدل الرفقة والانعزال بدل الاختلاط ، و لولا” الموت” لما خرج من فردانيته التي ارتبطت بصورة مكثفة من خلال تلك الغرفة التي كان يتأمل فيها ويمارس هواياته الصغيرة، ففيها قرأ كتبا متعددة لكل فلاسفة القرن العشرين وفيها قرأ سلاسل العلوم والمسرحيات وغيرها، وفيها اكتشف لذة الجنس الخارجي مع “وردة “، وفيها تصاعدت أحلامه وأماله و خيالاته وتوهماته التي طغت على ذاته المنشطرة إلى شطرين. ليتحول كل ذلك إلى كوابيس و فوضى عارمة و مرض نفسي تجلى في تلك المرآة التي كانت الذات الحقيقية التي تعترف وتطلب الغفران وتحاسب نفسها على كل الحماقات التي فعلتها بقصد أو دون قصد«أكبر هنا بأسرع مما أطيق، أعرف تماما أنني على خطإ عندما أتعاطى المخدرات سرا وأدخن علنا وأشرب الخمر أحيانا، أعرف أن وردة التي ستصير زوجة ابن عمي كانت لي على فراش الخطأ، أعرف أنني سببت شيخ الكتاب،و كدت أحقد على عبد الرحمن، وربما لولاه لكنت قاتله، أعرف أني لم أنقذ يحي الذي ظل يحميني، أعرف كم أنا مدنس.الآن أعرف تماما أي مسخ كنت تتحملين » ص 49.
هذه هي الصورة المشهدية النفسية التي تركزت على التقلبات النفسية التي صاحبت حياة” إدريس” الزاخمة بكل الخطايا.
ننتقل الآن إلى استجلاء الصورة المشهدية الختامية.
رابعا: الصورة المشهدية الختامية.
تميزت هذه الصورة بالعودة إلى أصل الأزمة التي تعرض لها “إدريس” وهي البحث عن ذاته، وعن بصيص أمل يعيده إلى الحياة بعد أن شارف على الانتحار، فكيف برز المشهد الختامي لحكاية إدريس؟
يمكن القول بأن المشهد الختامي قد سيطر عليه جانبان شكلا الصورة الكلية للمشهد الأخير من الرواية وهما:
*حضور الذكريات بشكل متواتر.
*وكذا السؤال عن قيمة الحياة في ظل ظهور بوادر أمراض نفسوجسدية.
حيث تعرض هذا الأخير إلى مجموعة من الحالات التي يمكن توصيفها بأنها معالم لمرض نفسي ذهاني، حيث سيطرت على “إدريس” جل أنواع الأمراض النفسية الشائعة ومنها: التهيآت، الخوف، الهذيان، الفصام، الوسواس القهري، الجنون.
إضافة إلى هذه الأمراض النفسية فقد تعرض “إدريس”إلى أزمة صحية على إثرها دخل غيبوبة استدعت الدخول إلى المستشفى يستذكر إدريس الأزمة التي وقعت معه فقال:«بقيت في المستشفى مريضا وخائفا،أعيش مع المرآة ساعات طويلة وأمرض باقي المرضى بالمستشفى،أصعب ما في المستشفى البياض الرهيب،الصمت الرهيب ليلا، هذا الصمت الذي قد يمزقه صراخ أحد المرضى المرعب،كأنه عالم يحيا بطعم مختلف و رائحة نشاز.
رائحة الموت و الحياة معا،إنه اليوم الخامس من علاجي »ص 61.
عاد” إدريس” إلى مكان اغتيال الخال يحي «يحي كان وليا صالحا يعرف الله سره و النباتات و الصمت. أقترب من بيت جدي بقبب العطايا، الباب الحديدي ما يزال يحمل خربشاتي القديمة و ما يزال يسحرني بخطوطه و صدئه و بالدفء الذي يحفظه، أحواض نباتات يحي كما هي، النباتات لم تذبل، ولم تستقل من مسرحها، أي مخرج أنت يا يحي، و أية مسرحية خالدة هذه؟ الشيح بخط الرقعة، الرمث بخط الثلث، الرتم بخط النسخ، الحلفاء تلائم الفارسي، و المثنان يمارس الجمباز على ايقاع الخط الديواني، هاهي النبتة التي أنقذتني منذ ساعات قليلة، لقد ملأت الفراغ الذي تركه يحي في المسرحية، يا الله إنه “البروق “، إذن فيحي هو من أنقذني، التبس علي الأمر و جثوت على ركبتي أقبل البروق و أعانقه بلطف، ربما حلت روح يحي في هذه النبتة، لقد تركت الحوض باسم و دون كائن ووجدته بالاسم و الكائن.» ص 123.
عادت صورة “يحي” بكل جلالها و جمالها، وعاد” إدريس” إلى الموطن الذي احتضن عالم الخال، فإذا بنباتات “يحي”تعود إلى صورتها مع جمالية الخط الذي كتبت به، لقد كان يحي فنانا، ففي مسرحه تتعانق أرواح النباتات، فلقد تخيل” إدريس” أن نباتات “يحي”لها القدرة على بعث الحياة فروح هذا الأخير حلت بروح نبتة البروق التي أنقذته من مصير مجهول،
تلك النبتة التي ستكون الصورة المتبقية لما حدث.
أثناء ذلك عاد إدريس إلى منزل والده وهو في حالة مزرية «لم يكن بوسعي أن أستحم لهذا لجأت إلى غرفتي و استسلمت لنوم عميق،كنت في دوامة من الكوابيس و الأحلام،صوت أمي كان الفاصل بينها، ففي كل مرة تدخل إلى الغرفة لتوقظني أفيق من نصل كابوسي لأنخرط في حلم جميل أو العكس، التقيت بالجميع، أنت كنت كابوسا وحلما، يحي كان مراقبا فقط، اكتفى بالوقوف دائما في مكان يمكنه عبره أن يشهد على جنوني، و أبي و أمي كانا عذابي في كل كابوس و فرحي في كل حلم، أبو الحسن حشاوش شرب القهوة دون توقف في أحلامي» ص 123.
لقد لبست كل شخصية من الشخصيات الفاعلة بحياة” إدريس” لباسي الحلم الجميل الذي رافق مخيلته فبرز “يحي “هادئا صامتا يراقب ما حدث وبرزت صورة حبيبته التي كانت حلما جميلا وأضحت كابوسا، أما شخصيتي الأب والأم فقد تلونت أحلام” إدريس” بهما حيث سيطر الفرح عليه تارة و سيطر الحزن تارة أخرى، أما “أبو الحسن “فقد كان كابوسا يحتسي قهوته.
توجه” إدريس” إلى المستشفى بعد الوعكة الصحية التي برزت على مسرح حياته، حيث قال له الطبيب بأن صحته تنهار وعليه أجراء تحاليل خاصة في مدينة الجزائر العاصمة، فقد شخص هذا الأخير «بداية روماتيزم لا ينبغي أن أتهاون حتى لا تتطور الأمور إلى ماهو أصعب، وأكد طبيبي المعالج سيمنحني أدوية و نظاما رياضيا لإعادة تأهيلي كشاب؟ أتساءل،أي نفع في هذا الحطام؟ » ص 124.
سافر ” ادريس” إلى مدينة الجزائر العاصمة وهناك عادت الذكريات إلى البروز من جديد؛ فإذا بالصخرة الأثيرية لـ”إدريس” تناديه أن عد من جديد فكيف كانت العودة؟ وما حملت معها؟
عادت مشاعر الحنين والشوق بشدة إلى تلك الصخرة التي كانت المؤنس الوحيد الذي احتوى” إدريس” في أحلك حالاته فأتاها صارخا «ها أنا أجييؤك أيتها الصخرة؟ أتذكريني؟ كأنها تذكرني…المكان الوحيد الذي يحسبني صاحبه هو “روشيه الموت”، مجددا تمنحني هذه الصخرة حياة أخرى لا يفهمها غيري، ترى هل عرفت؟ هذه الصخرة هي الوحيدة التي تقتسم أسراري معك إلا أنها لا تتنكر لي، لا ترفضني، بينما يفر الجميع من حقبقتي،…عندما تملك سرا تملك حياة، و عندما تملك أسرارا تملك حيوات، لماذا تعذبت بأسراري ولم أكتمها؟ لقد كنت جرحا يتجول في جراحي، لقد صرت جرحا يتمطى في جراحي» ص125.
أضحت الصخرة إنسانا يحتوى” إدريس” بكل همومه وخيباته، ومكانا لاستعادة صور التيه والضياع وهذا بعد أن صار الجميع يفر من صورته المشوهة، صورة أساسها الفشل على كل الأصعدة، لذلك تساءل هل مازالت هذه الصخرة تحمل كل أسرار إدريس التائه؟
عاد “إدريس” إلى مشهد البداية وهو واقف عند روشيه الموت يتأمل مصير حياته، وماعليه فعله مستقبلا في ظل اشتداد المرض، وتأرجح ذاته بين الحلم بعودة إلى فتاته وبين التفكير في مستقبل مجهول المعالم والرؤى، وفي خضم كل ذلك تذكر” يحي” الفتى الطفولي الذي رحل بسبب أولئك المجرمين الذين لم يرحموا صمته، فعتقدوا أنه مجرم قاد مراهقا إلى مكان معزول، يقول إدريس:«ما الذي يمكنني أن أفعله لأجل ذكراه، ليس أمامي شيء واضح سوى أن أواصل صراعي و بقائي، داخلي رضا كبير دون سبب وحقد أقاومه تجاه الكثيرين، لم أعد أحب التلفزيون و الجرائد، لا أحب صورة الرئيس و أعضاء الحكومة والنواب، لا أحب الارهابيين و التائبين و الشرطة و الدرك و الجيش، لا أحب رموز الدولة كلها ولا رموز السلم المبرمج بعد الحرب المبرمجة أنا أنتمي إلى يحي الذي قتل لأنه صامت، لا أنتمي إلى أبي الحسن ولا إلى هذا الرئيس و جنرالاته، أنتمي إلى الأرض التي يعيش عليها البروق و ليس إلى الوطن الموثق بالورق »ص 125.
رغب “إدريس” في تخليد ذكرى خاله” يحي” لذلك لجأ إلى البحث عن وسيلة لمعرفة المتسبب في هذه الجريمة النكراء التي راح ضحيتها الخال وعديد المواطنين فاتجه مباشرة إلى مبنى اللجنة الاستشارية العليا لترقية حقوق الإنسان، وهو حامل لصورة يحي: «و أصرخ مع عدد من النساء و العجائز والشباب “لا للنسيان”،”أرجعوا لنا أبناءنا “،”نريد الحقيقة”، أحدهم يبحث عن أمه، و الآخر عن شقيقه و أنا أبحث عن خالي يحي، وعني وعنك» ص 125ــ126.
تجمعت عديد النساء والعجائز و الشباب وهم يبحثون عن حل وحقيقة للمأساة التي حلت بهم حيث فقدوا أعز الناس والأهل والأصحاب؛ فمنهم من ماتت أمه وهناك من مات أخوه أو اخته، وهناك من فقد الخال والعم.. وكلهم يمثلون الجرح النازف لأهلهم، لذلك التجؤوا إلى مبنى اللجنة المكلفة بملف حقوق الإنسان لمعرفة الحقيقة التي طوت ملفاتهم وهم يصرخون بملء حناجرهم أين هي الحقيقة؟ لا نسيان لأهاليهم الذين فقدوا ذات ربيع وشتاء عاصف، مطالبين رجوع أبنائهم الذين طوى الزمن ملفهم وأصبحوا مجرد ذكرى ورقم في ملف فقدهم.
أمام مبنى اللجنة الاستشارية العليا لترقية حقوق الإنسان تجلت الحقيقة الصارخة وهي عمق المأساة التي أصابت مختلف شرائح الشعب فجعلتهم مجرد كائنات بلا أرواح تسعى وفي أثناء ذلك عادت الذكريات تشتد وتمر بالمخيلة، يصف إدريس ما حدث معه وهو يصرخ بأعلى صوته :«أصابني تعب مفاجىء، وفقدت صوتي تماما من فرط الصراخ دون أن أتشبع،أريد أن أصرخ أيضا، اسمك كان ينبض في ذهني ولا يمنحني سلطة نطقه، يلج ذاكرتي سريعا و لا يقيم بها، أنت بلا اسم و أنا أحك لساني لينطق به بلا جدوى، انسحبت من فوضى الاحتجاج المحصور في تجمع أفراد معدودين ممن بقي يذكر فقيده، مشيت قليلا ثم جلست أقاوم الأشواق و الأشواك و الفراغ كله.على يميني نبتة بروق جريئة تتحايل لتعانق الحياة دون مبالاة بالفقد الذي بدواخلنا، عيناي موخوزتان من عمقهما بإبر مالحة…البرد يجتاح جسدي و يلف الحكاية.
صخب الأشواق يعلو
تعلو نبتة بروق وتمد يدها نحوي فلا أجد يدا لي.
ثم يرتبنا البرد كما يريد » ص 126.
بهذا المقطع ينغلق المشهد الختامي لحكاية” إدريس” الفتى الذي ضاقت به كل الأمكنة رغم اتساعها وامتدادها على مدى مدينتيه الشاسعتين؛ فعاد مجددا إلى مكان البداية ليعيد رسم مساره الحياتي بعد أن وجد ذاته التي ضيعها مع كل لوحة من لوحات الحياة المأساوية، فكان أن وضع قدميه على العتبة الأولى لاستجلاء الحقيقة التي حجبتها الأزمة الوطنية وكذا منفذوها و المستفيدون منها، فبعودته إلى حادث اغتيال خاله تتعدل كفة الحقيقة وتنجلي لتصير هدفا بعدما كانت ضياعا، ورغبة بعد أن كانت يأسا، و امتلاء بعد أن كانت فراغا، و هدوءا بعد أن كان صخبا؛ وموتا بعد أن كانت حياة.
الدكتورة نجاح منصوري
قسم الغة و الآداب -جامعة محمد خيضر – بسكرة
قسم الغة و الآداب -جامعة محمد خيضر – بسكرة