
الدكتور محمد بغداد
بالرغم من الخلافات السياسية عشية الاستقلال، والتي كان من بين القادة فيها محند أولحاج، ولما وردت أخبار عدوان الجيش المغربي على الأراضي الجزائرية قرر البطل محند أولحاج، الانتقال إلى تيندوف تاركا جبال الولاية الثالثة التاريخية، معتبرا أن الدفاع عن الحقوق المشروعة المكتسبة من الواجبات الشرعية التي لا يجب التخلي عنها، وان الخلاف عن إدارة الوطني ثانوية أمام حماية الوطن.
وفي منتصف القرن الماضي، وفي غمرة معركة التحرير الثورة الوطني زاحم قادة الثورة تصريحات تناقلتها وسائل الإعلام للزعيم المغربي علال الفاسي يدعى فيها مزاعم أحقية سيادة ترابية.
فما كان من رئيس الحكومة المؤقتة فرحات عباس إلا أن أجاب على سؤال أحد الصحفيين في العاصمة القاهرة الذي طلب تعليقه على هذه المزاعم قائلا: ( إذا كان جادا في امتلاكها فليحررها ويأخذها، وإذا لم يحررها فليس له الحق في أن يدعي امتلاكها)، فلم يسمع لعلال الفاسي بعدها صوتا ولا ركزا.
وفي منتصف الثمانينات عندما عادت بعض الأصوات الفرنسية تلوك بعض الخرافات التاريخية التي سرعان ما تلقتها الأبواق المفرنسة عندنا حول هوية الجزائر ومكانتها في العالم، خرج الجهبذ مولود قاسم ليزأر بكتابه النفيس المهجور (شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية)، والذي للأسف هو متجاهل نخبويا ومهمل إعلاميا ومهجور شعبيا، بالرغم من كونه مشروعا ثقافيا فعالا، تحول إلى مجرد كتاب مهجور يتوارى في رفوف بعض المكتبات.
إن تصريح الزعيم فرحات عباس وكتاب مولود قاسم مجرد محطة من محطات كثيرة ومتكررة من تلك السلسلة المتناسخة من المشروع الكولونيالي الذي لم يهضم بعد حقيقة الاستقلال وإنسانية ثورة أول نوفمبر.
وهي المواقف والحجاج القوى والرد الصارم الذي هو ميزة موقف المجموعة الوطنية، عندما يتعلق الأمر بالوحدة الترابية والسيادة الوطنية، فيكون الرد تاريخيا، فيصدر من (النخبة العالمة) التي تظفر باحترام الخصوم وتقمع المناوئين، وتزيل الغموض، وتطمئن أصحاب الحقوق المشروعة.
إن كلام الرئيس السابق للحكومة المغربية عبد الإله بن كيران، هو في الحقيقة اتهام مباشر وصريح للملك الحسن الثاني، بالتخلي الطوعي والتفريط الصريح عما يعتبره بن كيران حقوقا ترابية مزعومة،وهنا يكون بن كيران ـــــــ حسب كلامه ـــــ قد اتهم ملكه السابق بالخيانة، ووافق على تصريحات بوعلام صنصال، والغريب في الموضوع أنه ولأول مرة يساند الإسلاميون خصومهم العلمانيون في الطروحات والمواقف الفكرية والإيديولوجية.
إن أمثال عبد الإله بن كيران ممن يغامرون بامتطاء سرج التجزئة الترابية والحلم بالقطرية الجغرافية والتبشير بالنزاعات الإقليمية، والصراعات الأثنية، ليسوا أبطالا كون قطار المشروع الكولونيالي الغربي يعيد غرس أنيابه اليوم في السودان والشام واليمن وليبيا، وغيرهما من الأراضي المغلوبة على أمرها، وهؤلاء يأتون اليوم ليجدوا سرج التجزئة قد تخلى عنه أصحاب المشروع الكولونيالي الغربي المتجدد، إلا أن عزاؤهم قد يكون في مجرد في ومضات اشهارية عابرة تستغل غياب (النخبة العالمة) التي تتليس عليها قساوة ظروف العيش وتقلب الدواليب وعدم توفر المناخ الأنسب المخططات التاريخ.
إن المشروع الكولونيالي الغربي المتجدد يزحف اليوم على ما تبقى من أراضي العالم العربي مخرجا فزاعات تعتمد الاتكاء على التصريحات الصادمة التي مشاعر الجماعة الوطنية وتضربها في أعماقها، متصورة أنها تستثمر في نظرية (الصدمة)، معتقدة أن الضربات المتوالية والصدمات المكثفة من شأنها تحقيق الاستسلام ورضوخ المجموعة الوطنية وقبولها بغطرسة الجحيم الترامبي المتوعد به.
إن الذين يرفعون اليوم لواء التصريحات ويرددون المقولات المنادية بالتجزئة الجغرافية وبث الشحنات العداوة بين الشعوب والبغضاء بين النخب وإصرارها على استهداف مشاعر الجماعة الوطنية، هم في الحقيقة تعملون على مصادمة التاريخ، وإنكار الواقع وإشغال الشعوب عن أولوياتها التاريخية وإغراق النخب في مستنقعات التفاهة والحماقة، وهو ما يراد تحقيقه من حملات إنكار التاريخ واستفزاز الجماعة الوطنية، والسعي إلى قلب الحقائق واستغلال الظروف التي تنطلق من نظرية الصدمة الغربية، والتي تأتي اليوم بعنوان الجحيم الترامبي.
إن المشهد القائم اليوم والمتلبس بالجحيم الترامبي يجعل من هجمات التشكيك في الوحدة الترابية أو الإصرار على إنكار الهوية التاريخية للأمة. بعضها يطفو على السطح (الريسوني الى بن كيران ومن يأتي بعدهما)، لا يندرج في الحقيقة في إطار استفزاز أو الضغط على الأنظمة السياسية لتحقيق مكتسبات سياسية أو اقتصادية، وإنما هو مصادمة مباشرة مع الأمة التي تتجاوز حدود وسقف الأنظمة السياسية، مهما كان لونها أو طبيعتها، وأن قوانين التاريخ قد أثبتت في القديم وفي الحاضر ومنذ احتلال العراق إلى المستنقع السوري، أن نظرية الصدمة الغربية لا تحقق أهدافها المتطلع إليها نخبويا في الغرب.
ولكن ما لا يجب نسيانه أو التغافل عنه، في ظل ما هو متوقع من تداعيات نظرية الصدمة الغربية، هو أن التعاطي الذي يكسر مثل هذه الحملات التي قامت من قبل وتنتعش اليوم، وستتكاثر في المستقبل، يكون في مستوى الإبداع الاستثنائي الذي مارسه شباب أول نوفمبر والحجاج السياسي لرفقاء فرحات عباس والإفحام الثقافي لزملاء مولود قاسم، وزئير امحند ولحاج وقبلهم التكتيك التفاوضي لسيدي أحمد بن يوسف والإنسانية الراقية للأمير عبد القادر.