
سميرة بن عيسى
تُعدّ المرايا من أبسط الأدوات التي نستخدمها يوميًا، لكن وراء سطحها العاكس تكمن دلالات فلسفية عميقة تتعلق بالهوية، والوجود، والذات. و بالنسبة للنساء تصبح المرايا أكثر من كونها وسيلة لرؤية المظهر الخارجي، إنها نافذة تطلّ على الأعماق، لخوض تجربة حميمة مع النفس، تلك العلاقة لا تتوقف عند حدود الجسد، بل تمتد إلى أبعاد نفسية وفلسفية أعمق، حيث تتحول المرايا إلى رفيقة صامتة تشارك المرأة تساؤلاتها وتأملاتها..
ولفهم هذه العلاقة، لا بد من التعمق في جوهر الأنوثة الفطرية، تلك الطبيعة التي لا تختزل في أدوار اجتماعية مفروضة أو مظاهر خارجية سطحية. الأنوثة الفطرية هي حالة وجودية أصيلة تنبع من أعماق الروح، تشكل جزءًا لا يتجزأ من إنسانية المرأة. إنها تعكس تناغمًا خفيًا بين الذات والعالم، وتتسم بخصوصية حساسة تتجاوز التصنيفات والتوقعات المجتمعية.
ومع وجود بعض المحاولات التي تسعى لتحرير الأنثى، إلا أنها تعرّض هذه الطبيعة الفطرية للتشويه عن قصد أو دون قصد، وذلك بحصرها ضمن تصورات اجتماعية ذكورية مغلوطة، تحاول تعريف الأنوثة وفق معايير تقيد جوهرها الحقيقي. تلك المحاولات لا تسعى لتحرير المرأة حتى و إن بدت كذلك، بقدر ما تدفعها إلى حالة اغتراب مريرة مع ذاتها، حيث تصبح غريبة عن تفاصيل جسدها وعن العقل الأنثوي الذي يميزها. طالما لم تتح الفرصة للنساء ليشرحن أنوثتهن.
في هذا السياق، يتبدى الصراع بين الأنوثة الفطرية والمفاهيم المجتمعية المغلوطة عنها كمعركة جوهرية من أجل استعادة الذات الأنثوية، لأنها ليست عبئًا يفرض على المرأة التكيف مع أطر خارجية، بل هي جوهر حر يحتضن تعقيدات النفس الإنسانية بكل عمقها وسعتها. تحرير الأنوثة يعني إعادة الاعتراف بإنسانية المرأة الكاملة، بعيدًا عن ما يدفعها للاغتراب عن نفسها، وعن ما يحيط بها.
لذلك فالضغوطات المجتمعية التي تجعل المرأة تركز بشكل كبير على مظهرها الخارجي، وفق معايير قد تكون مغلوطة،أو يصعب تحقيقها، فإنه بتحرر ها من المرايا لن تتحرر من هذه القيود الاجتماعية والنفسية التي تُعيقها عن التركيز على جوهرها وأهدافها، بل يخدش طبيعتها الأنثوية، ويكسر حساسيتها المفرطة بالأشياء من حولها. هذه الحساسية التي تشبه حساسية زجاج المرايا الذي يعكس النور ويكسر الظلام، لكنه في نفس الوقت هش جدا فإذا أسيء التعامل معه، يفقد هذه التفاصيل
الجميلة في طبيعته الخاصة.
ولفهم هذه العلاقة بين المرايا و الأنوثة، نعود لفكرة الفيلسوف “جاك لاكان”، الذي أعطى بعدا أعمق للمرايا في علاقتها مع الذات، من خلال تناوله موضوع المرآة كمرحلة تأسيسية للذات في نظريته النفسية، حيث اعتبر أن رؤية الفرد لصورته في المرآة تشكل لحظة محورية في تطور هويته. وعلى الرغم من أن هذه النظرية تُطبق في الغالب على الأطفال، إلا أن إسقاطها على المرأة يمكن أن يفسر العلاقة المعقدة التي تجمعها بالمرايا، حيث تصبح المرايا وسيلة لفهم الذات أو إعادة تشكيلها في ظل تأثيرات مجتمعية.
و العلاقة الحميمة التي تربط بين النساء و أشباههن المرايا، تتخطى حدود الجسد
ومعايير الجمال السّائدة، فهي تُشبه في بعدها النفسي للصداقات المبنية على الثّقة والتفاهم. فالمرآة لا تخون المرأة أو تُخفي عنها حقيقتها، بل تعكس صورتها بشكل دقيق، حتى وإن كانت تلك الصورة غير مُرضية أحيانًا. وفي تلك اللحظات، يمكن للمرأة أن تجد في المرايا صديقة صادقة، لا تحكم عليها ولا تعكس إلا ما هو حقيقي، وهذا في حد ذاته يحررها من المعايير السّائدة في المجتمع، وبالتالي تصبح أكثر ثقة بنفسها، وأكثر وعيا بذاتها.
ومن خلال هذه العلاقة الخاصة بين النساء والمرايا، يمكن فهم بعض ملامح الطبيعة الأنثوية الفطرية، ولذلك كان لزاما لفهم هذه الطبيعة المعقدة منح المرأة حريتها التي تعزز حقها في التعبير عن أنوثتها بالطريقة التي تختارها، دون الخضوع لضغوط المجتمع أو التقاليد، وبهذا تصبح الأنوثة تعبيرًا ذاتيًا خالصًا عن المرأة نفسها، وليس وسيلة لإرضاء توقعات المجتمع أو الآخرين، وهكذا تتحرر النساء بإعادة تعريف الأنوثة.