بعد يومين من المحاضرات في فندق “ريجنسي حياة” بالجيزة، في أيام إعلامية لشركة “روش” العالمية حول سرطان الثدي،تمكنا اخيرا بعد مفاوضات عسيرة مع الوفد الإعلامي من التسلل إلى الأهرام بالجيزة وشارع خان الخليلي بقلب القاهرة وضفاف نهر النيل.
سائق برتبة مثقف
تعرفنا على سائق سيارة الأجرة حسين ـ سائق برتبة مثقف وكوميدي يعرف كل زقاق وممرات وأسامي الأحياء والمنعرجات، كسرنا معه حاجز الصمت بالتعارف، والحديث عن صعوبة اللهجة الجزائرية وبعض معارفه عن الجزائر التي اختصرها في جميلة بوحيرد، بومدين وبن بلة والفريق الوطني لكرة القدم والمقولة الشهيرة الجزائر بلد المليون ونصف مليون شهيد.
كانت رغبتنا كبيرة في اكتشاف إحدى عجائب الدنيا السبع وهي أهرامات الجيزة، كان عون الاستقبال في قمة اللطافة خاصة لما عرف أننا من الجزائر، وأن صحفيا منا يشجع فريق بلوزداد فأمر العون رفاقه بتسهيل المهمة لنا خاصة أننا لم نكن نملك بطاقة فيزا، لأن شراء التذاكر للدخول كان يتطلب ذلك.. فبلوزداد كانت كلمة السر التي تمكنا من خلالها من الدخول ولما عرف باقي الأعوان أننا من الجزائر صرخ أحدهم “وان تو ثري فيفا لالجيري”.. فدخلنا ساحة الأهرامات التي تعج بالسياح من مختلف الجنسيات وسط عربات الحنطور التي يقف عليها رجال من متقدمي السن، ممن لفحت وجوههم الشمس الحارقة، يقترح عليك رحلة تلف الأهرامات بـ 500 جنيه لكننا رفضنا عرضهم مخافة السقوط في الاحتيال ومن مبدأ التحفظ أيضا، وحاولنا اكتشاف المكان بمفردنا.
بلوزاد تفتح الأهرامات
وعرفنا من أعوان الحراسة أن مجمع أهرامات الجيزة (يُطلق عليه أيضًا اسم مقبرة الجيزة)، هو موقع أثري على هضبة الجيزة في القاهرة الكبرى في مصر، يضم المجمع كل من الهرم الأكبر وهرم خفرع وهرم منقرع جنبًا إلى جنب مع المجمعات الهرمية المرتبطة بها وتمثال أبو الهول. بنيت هذه الأهرامات جميعها في عهد الأسرة الرابعة لمملكة مصر القديمة بين عامي 2600 و2500 قبل الميلاد. كما يضم الموقع عدة مقابر وبقايا قرية عمالية.
يقع المجمع على أطراف الصحراء الغربية على بعد حوالي 9 كيلومترات (5.6 ميل) غرب نهر النيل في مدينة الجيزة، وحوالي 13 كيلومترًا (8 ميل) جنوب غرب وسط مدينة القاهرة. أدرج الموقع (إلى جانب مدينة منف) المجاورة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي في عام 1979.
يعد الهرم الأكبر وهرم خفرع من أكبر الأهرامات التي بنيت في مصر القديمة، وقد كانا شائعين تاريخياً كرموز لمصر القديمة في المخيلة الغربية. اشتهرا في العصور الهلنستية، عندما أدرج الهرم الأكبر من قبل الشاعر اليوناني أنتيباتر كواحد من عجائب الدنيا السبع. وهما إلى حد بعيد أقدم عجائب الدنيا القديمة والوحيدة التي لا تزال باقية.
كثيرة هي المواقف التي تعرضنا إليها خلال جولتنا في موقع الأهرامات منها وجود العديد من الكلاب المشردة التي سألنا عنها فقيل لنا إنها تتعرض للتلقيح وليست شرسة رغم أن نباحها يثير الرعب في النفوس، ووجدنا يمنيا متزوجا من جزائرية ولما عرف أننا من الجزائر سره ذلك سرورا كبيرا وتواصل مع عائلته في اليمن يخبرهم بأنه معنا / كما أنني سألت عجوزا تعمل في التنظيف هناك عن الجزائر فقالت إنها بجنب السعودية وتركناها على هواها، داعين إياها إلى مراجعة الجغرافيا.
كانت الزحمة تسمح لنا بالتعرف أكثر على أسماء الأحياء، وحتى السائقين الذين تعرف على بعضهم حسين وأطلق على بعضهم أسماء مختلفة من خياله وسط منبهات السيارات والأضواء.
تحدثنا عن عدد المصريين الرسمي وغير الرسمي، الأول تضمن 107 ملايين مصري والثاني 50 مليون مصري بسبب رفض هؤلاء التسجيل في سجلات الحالة المدنية وقبولهم طوعا الهيش بدون هوية هروبا من خدمة الجيش يعيش أغلبهم في القرى والصعيد المصري.
سألنا عن الأطعمة المصرية فتفنن حسن في وصف الكوارع ولحمة راس والحواوشي، ومفعول الفول المدمس المعروف لدى المصريين؛ فقال مازحا إنه يسهل مهمات الإدارة لأنه “يأخذ العقل”.
ونحن في زحمة طرقات القاهرة الأضواء كانت خافتة، غير أن اللافتات الإشهارية تضيف جمالا لمدينة المعز، كنا نسأل عن سر الدعابة لديه فقال إن الطريق والزحمة تعلم الإنسان الصبر وكثيرا ما تحدث مشاحنات بين السائقين والمارة حتى إن الاقباط يدعون المتشاجرين للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لفكهم، وكثيرا ما يتدخل باعة الكعك المصري لإضفاء بعض الحيوية في الطريق، كما يتدخل متسولون من كل الأعمار يطلبون من المارة والسائقين على السواء بعض القروش.
في ميدان التحرير بدأت الزحمة تتحرر من سائقي السيارات والتكتكتوك كان موقفا غريبا ينتابك شعور كأنك في مسلسل مصري، حدثنا حسن عن الخديوي الذي كان يرفض رؤية كنيسة منتصبة على شمال ميدان التحرير فأمر ببناء طريق مختصر وكان هناك فنادق لعلامات عالمية وكذا مقر الجامعة العربية..
خان الخليلي.. قطعة من السعادة
كنا جد محظوظين لما استطعنا ركن السيارة أمام مسجد “الأزهر” الشريف كانت الشوارع مزدحمة بالسياح الأجانب الذين انتشروا كالجراد في المقاهي والمحلات التي تبيع التحف والزرابي المصرية الفرعونية المعروفة.
في نفق “الأزهر” يشدّك صوت القرآن المجوّد من طرف أحد المتسولين الذي اتخذ من درج النفق مكانا للتسول وتجويد القرآن وسط جموع من المتسولين هذا أعمى وآخر معاق يتكئ على عصا غليظة وأخرى تجمع أولادها.
يؤدي نفق “الأزهر” وهو ممر إلى اتجاه واحد إلى مدخل خان الخليلي، الذي نال شهرة كبيرة في المسلسلات المصررية خاصة مسلسل ليالي الحلمية وروايات نجيب محفوظ، بمجرد دخولك الخان تشدك الحركية التي يعرفها السوق.
وحسب حسن سائق “التاكسي” وصديقنا ومرشدنا، فإن الخان يعد أبرز الأماكن السياحية والتاريخية في البلدان العربية، حيث يشهد أناس يملأون المكان مجيئًا وذهابًا في صورة هي نفسها التي نقلها الأديب الراحل نجيب محفوظ، في روايته التي تحمل اسم “المكان نفسه”.
وأضاف، أن خان الخليلي، هذا المكان الذي لم تختلف حالته على مر العصور، فمنذ إنشائه في قلب قاهرة المعز لدين الله الفاطمي قبل أكثر من 600 عام، لا يزال يحتفظ برونقه بعد التغيرات الطفيفة حدثت مع التغير الطبيعي للزمان، لكنها لا تحرم زواره من رحلة مجانية عبر آلات غير مرئية للزمان تروح بهم سريعًا إلى العصر المملوكي حيث ينتمي.
ويعتبر خان الخليلي واحدًا من بين أقدم الأسواق التجارية في أنحاء المحروسة والشرق الأوسط كافة، سُمي بهذا الاسم نسبة إلى صاحب قرار إنشائه، الأمير جهاركس الخليلي، أحد أمراء المماليك الذي أمر ببناء الخان في عام 1382 من الميلاد.
والخان عبارة عن بنايات على شكل مربع محاط بفناء يشبه الوكالة، الطوابق الوسطى منه مخصصة للمحال والدكاكين، أما الطوابق العالية فهي مخصصة للمخازن والمساكن، يلفت النظر فيها تلك المشربيات القديمة المطلة على الشارع وأحواض المياه والأزقة الضيقة، ومع مرور الزمن بني على أرض خان الخليلي العديد من المباني الجديدة ذات الطراز العربي الإسلامي، لتضفي قيمة أخرى إلى القيمة التاريخية لهذا المكان العتيق.
وسط الزحمة وجدت أن حسن والشلة التي رافقتني قد اختفت عن الأنظار لكن روعة المكان أنستني ماحدث وآنست وحشتي.
وأنا أحاول معرفة مكان الرفقاء شدني شخص حامل علبة تلميع الأحذية فقلت للتاجر وهو صاحب محل عطارة إن هذه المهنة لن تجدها في الجزائر لأنها تعتبر إهانة ولديها خلفية تاريخية أثناء الاستعمار الفرنسي، حيث اضطر العديد من الجزائريين لأن يشتغلوا بها لكن بن بلة منعها بمجرد الاستقلال، وقال الحاج محمد وهو متفاخر “نحن أيضا ضربنا الؤنجليز على قفاهم” في إشارة منه إلى مقاومة المصريين للإنجليز.
كان أكثر شيء حرصت عليه في الخان هو أن أتناول قهوة مصرية خالصة، التي أصر الحاج محمد أن يناولني إياها لما سمع برغبتي في ذلك.. لكنني علمت فيما بعد أنه حسبها مع الحساب الكامل لمشترياتي.
بعد مدة عادت الشلة التي رافقتني والتقينا صدفة بين أزقة الخان التي تعرف زحمة كبيرة بين الزوار والباعة الذين يروّجون سلعهم بالنداء والتزاحم على الزبائن بطريقتهم الخاصة والمميزة.
وأكثر ما يشد انتباهك هو أسماء المقاهي والمطاعم التي تحمل تاريخ كبار المصريين مثل مقهى “نجيب محفوظ” ومطعم “أم كلثوم”.
في ركن من أركان درب البادستان، يقع المقهى الذي أخد من ملامح المكان وكان رواده كثيرين ومختلفين، من ضمنهم الكاتب الكبير نجيب محفوظ. تم افتتاح المقهى سنة 1989، وهي نفس السنة التي حصل فيها نجيب محفوظ على جائزة “نوبل للأدب”، وهو الأمر الذي جعل صاحب المقهى يسميه على اسمه، احتفالًا وتكريمًا له.
كان نجيب محفوظ يفضل هذا المقهى، لأنه قريب لحي الجمالية مسقط رأسه، ومسرح أغلب رواياته. وكان له طاولة خاصة يفضل أن يقعد دائمًا أمامها، وبعد وفاته تم وضع صورة شخصية له عليها، وأمامها بعض رواياته.
أول ما تدخل المقهى تحس أنك انتقلت للعصر الفاطمي، بفضل تفاصيل يتميز بها المكان، مثل باب المطعم الأثري الذي عليه نقوش إسلامية عتيقة. وعامل الاستقبال بزيه الفاطمي وهو يستقبلك على الباب. وفرش الأرضيات بالنقوش الإسلامية، وإضاءة السقف بالنجف النحاسي، المزين بالآيات القرآنية.
ولأن من أهم عادات القاهرة القديمة هي السهر، فمواعيد عمل المقهى تكون يوميًا من 10 صباحا إلى الساعة الثانية ليلا.
أما عن الأكل والشرب، فالمطعم يقدم كل أنواع الأكلات المصرية الشهيرة مثل الكبدة الإسكندراني، الممبار، والكشري. ومن الساعة 9 تبدأ فرقة موسيقية شرقية، في عزف وغناء أجمل الأغاني القديمة والطقاطيق. والمقهى يقدم كل المشروبات من سحلب وقرفة وشاي وغيرها.
كان التجول في الخان قطعة من السعادة والجمال تنسيك تعب اليوم وزحمة الطرقات وتحيلك إلى كرم المصريين وأصالتهم..
ختمت رحلتي في القاهرة عند محلات العبد وهو من أشهر المحلات التي تصنع الحلويات والإيسكريم وتلقى شهرة واسعة عربيا وعالميا، والعون هناك عملي خصما لما عرف أنني من الجزائر وأخذت بعض القروش كتذكار من المحل.
زارها ليلا موهوب رفيق