2025-01-24 15:09

بقلم الكاتبة والناقدة زهراء كشان   

في رواية “الهرَّاب” يقف الإنسان على ضفاف أحلامه بين صدى يدعوه للمواجهة وصوت يغريه بالهروب في صراع داخلي يمزّق الروح وحكاية تنبض بالتساؤلات الكبرى هل الهروب تحرّرٌ أم وقوع في أسرٍ جديد؟ هل الهروب نجاة أم سقوط في هاوية أعمق؟

رواية “الهرَّاب” عمل أدبي إبداعي وانعكاس وجودي لتجربة إنسانية أشبه بفسيفساء تتشابك فيها الأحلام والهواجس وتمتزج الحقيقة بالخيال لتجعل القارئ شريكًا في إعادة رسم المشهد، يرسم الروائي رفيق موهوب في الأفق الإنساني الذي يتجلى عبر التخيل، روايته بإيوديلوجية حكيمة تختزل من تجربة الأفراد مشاهد وتلون لوحة فنية في أفق بلا حدود ببراعة وبمختلف الألوان بطرح شجاع تلازمه المغامرة والجرأة والتحدي فما الذي يكشفه “الهرّاب” عن النفس البشرية؟ وكيف يمكن للهروب أن يكون فعلًا مليئًا بالحضور؟                                                                                         في هذه القراءة التأملية التي نسجتها بناءً على تصفحي لرواية “الهرّاب” في رحلة تتجاوز حدود الزمن والمكان سنكتشف الرمزية التي اعتمدها الكاتب رفيق موهوب والعلاقات المعقدة بين الشخصيات والبنية السردية التي صاغها قلمه الأنيق بمهارة لعرض أحداث هذه الرواية التي تجمع بين المتعة ونماذج إنسانية متعرضة لأزمات.

 

الغلاف:                                                                                            

في رواية “الهرَّاب” نغوص في رمزية الغلاف وعمق العنوان، لنعرف كيف استطاع الكاتب أن يجسد ثنائية الهروب والمواجهة، فالعمل الأدبي ليس فقط ما يُكتب في المتن بل يبدأ منذ النظرة الأولى للغلاف ومن وقع العنوان في النفس، دعونا نتأمل “الهَرَّاب” بكل ما يتضمنه من دلالات فلسفية ونفسية ونكتشف كيف يمكن لفن السرد أن ينقل معاناة أمّة أو تصدّع ذات من أجل أن نعرف معنى الهروب كفعل وجودي مقاوم.

يضع الروائي الكتاب بين يدي القارئ بعنوان “الهَراب”، الغلاف ينبض بمعان تختزل عوالم كاملة في كلمات ورموز بصرية إنها المدخل الذي يدعو القارئ للولوج بين السطور عنوان “الهراب” وصورة الغلاف ليسا مجرد تغطية سطحية للعمل بل هما جسرٌ متينٌ يربط بين العمق الفلسفي للرواية والواقع الصعب الذي تعالجه إنهما يحملان في طياتهما صرخات إنسانية وتناقضات بين الخوف والرغبة في الحرية وبين القيد ومحاولة كسره.

غلاف الرواية والعنوان يجسدان معًا صراعًا إنسانيًا وجوديًا، الزمن الذي يهدد والإنسان الذي يهرب لينجو ولكنه في الوقت ذاته يبحث عن معنى لوجوده وسط المتناقضات.

الغلاف يمثل قوة واعية تتجسد في شكل بشري قادر على التأثير والسيطرة، الوجه المرسوم على الغلاف يوحي بالتحدي تعبر الملامح الحادة والتجاعيد البارزة عن عمق الزمن مما يعكس التوتر أثناء قراءة الرواية والإثارة الشديدة، العيون تخترق القارئ كأنها تحمل سرًا غامضًا وتعلن عن نوايا تتجاوز قراءة الروايات العادية إلى قراءة رواية مميزة وجذابة، اللون الأسود والأحمر: الجمع بينهما يعبر عن تناقضات الحياة، الأمل واليأس، القوة والهلاك، اللون الأسود يرمز إلى الغموض الكامن في الرواية وهو خلفية العالم المظلم الذي يعاني فيه الإنسان، بينما الأحمر يصرخ بالقوة والعاطفة و الغضب، الابتسامة غامضة أقرب إلى ابتسامة تحد تعكس ابتسامة شخص واثق من نفسه ولكن مع نظرة ثاقبة مثيرة للرعب يصعب فهم دوافع هذا الشخص مما يثير فضول القارئ لاكتشاف ما وراء هذا التعبير المدهش.

 

العنوان

“الهرَّاب” عنوان الرواية يضعنا أمام مشهد إنساني حيث تكون الشخصيات في صراع دائم مع الواقع هو حالة وجودية تعبر عن تمزق داخلي وصراع خارجي يُلقي الضوء على اللحظة التي يتحول فيها الهروب إلى تمرد وخوف إلى مقاومة بأسلوب مليء بالتحديات والمخاطر وهو دعوة للتأمل في هروبنا نحن القراء من أزماتنا الشخصية.

“الهرَّاب” بصيغتها اللفظية تمنح الكلمة إيقاعًا قويًا ومختلفًا، الحرف المشدد يُضيف قوة وإلحاحًا مما يشير إلى فعل استثنائي، الكاتب يريد إيصال حالة خاصة من الهروب ليست مجرد فرار عادي بل صراع داخلي مكثف ومحاولة لكسر قيد أو تجاوز حدود، الكلمة تحمل في جوهرها إحساسًا بالعنف أو السرعة، يرمز إلى حالة من الهروب الممزوج بالخوف أو التمرد حيث يكون الهروب هنا ليس خيارًا واعيًا بقدر ما هو فعل اضطراري للبقاء.

هذا العنوان يضع القارئ أمام سؤال إذا كان الهروب هو السبيل الوحيد لتحقيق الحرية؟ هل “الهَرَّاب” وسيلة نجاة، أم أن الهروب المستمر يسلب الإنسان كرامته وقدرته على المواجهة؟

صوتيًا “الهَرَّاب” كلمة تبدأ بحرف “الهاء” الذي يوحي بالتنهد أو بداية رحلة شاقة وينتهي بحرف “الباء” الذي يعكس ثقلًا أو سقوطًا الحروف تُعبِّر عن حركة دائرية من الخوف والانطلاق إلى الاستقرار في النهاية على مصير مجهول.

من الناحية الفلسفية “الهَرَّاب” يعكس صراع الإنسان مع القدر والمجتمع حيث يبقى الهروب فعلًا ناقصًا ما لم يتحول إلى مواجهة حقيقية للظروف المحيطة.

الكاتب يدعو القارئ إلى التفكير في معنى الهروب هل هو مجرد فرار أم بداية لفعل تغييري؟

أما إذا قمنا بالإسقاط السياسي والاجتماعي على العنوان “الهرَّاب” يمكن أن يكون تعبيرا على وضعية مجتمع يحاول الهروب من الاحتلال أو من وضعية اجتماعية سيئة، حيث لا يكون الهروب خيارًا فرديًا بل حركة جماعية تحمل في طياتها المعاناة والخوف كما يوحي بشعور أعمق بالضياع في زمن تنهار فيه الثوابت والقيم، ويصبح “الهَرَّاب” فعلًا إنسانيًا شاملًا، يتكرر في محاولات الشعوب والأفراد للبحث عن حياة كريمة.

 

الاستهلال

“جميلة جدا كأنها خلقت من تراب القمر” هذه العبارة تحمل بعدا فلسفيا عميقا ومؤثرا فيها يمزج بين الجمال والقدسية ومشاعر حب سماوي مع استعارة كونية تعبر عن سحر القمر الذي يعكس نور الشمس ويرمز إلى الرقة والصفاء في مخيلة الإنسان، توحي بأن أمّه كائن فريد يحمل في جوهره جزءا من كيان أكبر، يُشَبِهُهَا في مشاعرها الدافئة وتضحياتها بضوء القمر الذي يهدي التائهين وقت الغسق.

“أنت البحر كله وأنا الموج وسطك مهما ارتفع موجي سأرجع إليك  يا أمِّي”، هذه العبارة تفيض بمشاعر الامتنان والحب العميق للأمّ وتجسد العلاقة الأبدية بين الأم وأبنائها بكل ما فيها من جمال وتواصل روحي تحمل دلالات فلسفية غنية بالتأمل ترسخ شعور الطفل تجاه أمِّه في صورة بحر يحتضن الموج بحيث يكون البحر رمز الاتساع والموج يمثل العواطف والتقلبات مهما ارتفع الموج فإنه يعود ليجد الأمان والسكينة في حضن البحر هكذا الأمّ هي الملاذ مهما كانت الصعاب.

لقراءة هذه الرواية قراءة منهجية نعتمد على محاور رئيسية تشمل: الموضوع والفكرة، الشخصيات، الحبكة، اللغة والأسلوب، والرسالة والرؤية العامة الخاتمة.

 

الموضوع

الرواية تجمع بين الأدب التاريخي والأدب السياسي، حيث تستخدم الحدث التاريخي كمرآة لتناول أفكار سياسية معاصرة، تنطلق أحداثها في ولاية الجزائر بالتحديد في القصبة وباب الوادي من بداية التسعينيات لتضرب في الذاكرة إلى ماض بعيد تتطرق إلى الصراعات والهويات وقضايا مثل الاحتلال والقمع التمييز الديني والعرقي والمقاومة، كما يظهر وجود إشارات إلى النضال والظلم وتتطرق إلى تأثير الأحداث السياسية على الأفراد والمجتمع وتركز على الوقائع التاريخية حرب 67 ضد الصهاينة، مذبحة قسنطينة في 12 ماي 1956-  ترحيل يهود الجزائر1956-1962 ـ المجاهدين –الموساد – الحرب العالمبية الثانية – جبهة التحرير الوطني

الرواية تتحدث عن الاحتلال وعلاقات القوة بين أطراف معينة في سياق تاريخي.

تظهر إشارات إلى قضايا متعلقة بالديانات والتمييز الديني خاصة في سياقات تخص اليهودية مما يعكس صراعات اجتماعية وسياسية.

تتطرق الرواية في سياق سردي إلى معاناة الشعب الجزائري وقت الاحتلال كما تظهر إشارات إلى تواريخ مرتبطة بوقائع سياسية تتعلق بالحقبة الزمنية التي ظهر فيها الإرهاب.

اهتم الكاتب رفيق موهوب بمظاهر المقاومة والنضال وتناول قضايا معاصرة وتاريخية مرتبطة بالصراعات والهوية والتغيرات الاجتماعية صور الكاتب في منحنى التطور الاجتماعي لحظة انقلاب المواقف وقام بإصلاح هذا الشرخ بأخلاقه وميوله ووجدانه، وتحمل قلمه هذا العبء معه، اعتنق الكاتب بعض الظواهر الاجتماعية أثناء الكتابة وبصمها على الورق.

الفكرة الأساسية: الرواية تسلط الضوء على الصراعات السياسية والاجتماعية مع التركيز على الهوية والتفرقة الدينية، القصة مستوحاة من واقع اجتماعي سياسي حقيقي يتعلق بفترات تاريخية دقيقة ويبرز تأثير الأحداث السياسية الكبرى على الأفراد والمجتمع مما يعكس وعيًا عميقًا بالطبيعة المركبة للصراعات الإنسانية والاجتماعية.

الشخصيات: تحمل أبعادًا رمزية وتجسد الفئات المتأثرة بالصراعات سواء ضحايا أو مشاركين، دوافع الشخصيات مرتبطة بالتحديات السياسية مثل الهوية، الدين، والانتماء مما يجعلها أدوات فعالة لنقل الأفكار.

تستمر الشخصيات في التطور بما يخدم الفكرة الأساسية للرواية مما يدل على بناء منسجم للشخصيات.

الحبكة: تبدو مترابطة ومبنية على أساس أحداث سياسية تاريخية واجتماعية الأحداث تتبع تسلسلًا منطقيًا ومتصاعدًا يؤدي إلى ذروة درامية، تتدفق أفكار الكاتب متسلسلة وتنساب الكلمات مخضلة ليرصد أحداثا من موقعه، يقوم بتجميع الأحداث وتنظيمها بتفاصيل جذابة تجعل المتلقي يسهب داخل الوصف والتراكيب دون تعثر بشوق لمعرفة الأجزاء والوصول إلى النهاية.                                                                                 القارئ لرواية “الهرَّاب” كأنه زائر لمدينة مزدحمة تضج بالتفاصيل والألوان يزخر النص بالصراعات سواء داخلية في نفوس الشخصيات أو خارجية مع القوى المسيطرة هذا الصراع يسهم في إبراز الطابع السياسي والاجتماعي.

 

اللغة والأسلوب

اللغة: رواية “الهرَّاب” تعتمد لغة قوية ومؤثرة، يمتزج فيها الواقع بالخيال، مما يناسب طبيعة الموضوع السياسي الاجتماعي.

الأسلوب السردي: الأسلوب خدم الفكرة الرئيسية للنص الروائي حيث عمل الكاتب على توسيع الرؤية وركز على الوصف الدقيق لتغذية الأحداث والأفعال التي تقوم بها الشخصيات مع محاولة خلق أجواء تتوافق مع المواقف المختلفة كما نجح الروائي رفيق موهوب في ابتكار سلسلة من الأحداث المرتبة زمنيا تعاقبت وانسجمت منطقيا.

الإيحاء والرمزية: استخدم الكاتب الإشارات التاريخية والسياسية التي عكست كالمرآة عمقًا رمزيًا أثرى المعلومات الضرورية واتسعت عن طريقه البيئة التي تجري فيها الأحداث.

 

الرسالة والرؤية العامة

رسالة الرواية: تهدف رواية “الهرَّاب” إلى تسليط الضوء على معاناة الإنسان في ظل حوار الديانات وغياهب الاحتلال وطرح تساؤلات حول الهوية والانتماء اليهودية والإسلام، الحرب العالمية الثانية- جبهة التحرير الوطني- المجاهدين – الاحتلال- حرب 67 ضد الصهاينة –الجماعات الإرهابية.

الرؤية النقدية: الكاتب يتبنى موقفًا حصيفا تجاه قضايا التفرقة الدينية والصراعات السياسية التاريخية الممتدة عبر فترات في تاريخ الجزائر مما يجعل هذا النص الروائي يحمل بعدًا إنسانيًا واجتماعيا يلج أروقة الأدب الروائي العالمي.

 

خلاصة النقد                                                                              

الرواية تحمل رؤية سياسية دينية واجتماعية بأبعاد وطنية تحتفظ بقيمتها الفنية والجمالية والفلسفية، تُظهر انسجاما بين البنية الأدبية والمضمون الفكري، الكاتب يستثمر الشخصيات والأحداث لإثارة أسئلة وجودية وسياسية حول المصير والهوية، النص يبدو ملتزمًا بقضايا كبرى مما يجعله أقرب إلى أدب الرسالة.

 

أسلوب الكاتب                                            

اعتمد الكاتب لغة سليمة قوية ومؤثرة تعكس عمق المعاناة والظروف الصعبة التي تعيشها الشخصيات هذا يشير إلى أنه يملك مهارة في إيصال الأفكار بأسلوب فني سليم.

الرمزية والواقعية: الأسلوب يمزج بين الرمزية في طرح القضايا الكبرى مثل الهوية والواقعية من خلال وصف الأحداث والمواقف بتفاصيل جذابة، هذا المزج يمنح النص الروائي جمالا ويجعله مفتوحًا لتفسيرات متباينة.

التوازن بين السرد والوصف: الكاتب يمنح اهتمامًا كبيرًا بالوصف التفصيلي للأحداث والشخصيات، ويبدع في مسار الوصف ليشعر المتلقي بحضوره في حقول النص “واستمرت في تحضير مائدة العشاء……كانت منشغلة بترتيب الصحون والملاعق –كانت رشيقة تفضل لبس الأسود – حملت من المطبخ ولاعة لإيقاد شمعتين أو أكثر في شمعدان منفرد أو متعدد الشعب”.

تنوع الأساليب: استخدم الروائي السرد متعدد الزوايا مما عكس براعة في التحكم بالأسلوب أضاف جاذبية للنص الروائي وكانت له الجرأة في طرح قضايا سياسية وطنية دينية واجتماعية وتميز باختيار مواضيع اجتماعية حساسة بشجاعة في الطرح وبوضوح في الرؤية مما جعل الطرح جادًا ومؤثرًا.

العمق الفكري: النص يبرز فهمًا عميقًا للسياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي يتناولها، مما يعزز مصداقيته.

يُلاحظ أن الكاتب لا يكتفي بوصف الأحداث بل يحاول تحليلها واستنطاق معانيها كما أن النص الروائي هنا يحمل رؤية الكاتب انحيازي تأكيدي ضد الاحتلال والظلم وهذا واضح في الأدب الذي يهدف إلى الدفاع عن القيم الإنسانية.

ربط الكاتب القضايا الشخصية بالقضايا الكبرى ونجح في تصوير كيفية تأثير القضايا السياسية الكبرى على مصائر الأفراد وهذا يعد نقطة قوة لأنه يربط بين معاناة الشخصيات والظروف السياسية والاجتماعية، كما أن الأسلوب يعكس وعيًا أدبيًا متكاملا وإدراكا شاملا بالموضوعات التي يتناولها مما عزز من وقع النص على المتلقي تمت معالجة القضايا المطروحة بجرأة وكان الوصف والتحليل مناسبين مما منحا النص سردا منسجما وقائع وشخصيات مع الدقة والاتقان.

 

الخاتمة

أبدع الكاتب في طرح القضايا وتصوير الأحداث بأسلوب قوي ومقنع وعرض المواقف فيها بهدوء وجمال، كما تميز الروائي بإخضاع البنية السردية باحترافية قلمه لمعالجة المواضيع السياسية والإنسانية بأسلوب أدبي مميز مع نجاحه في انسيابية القص.

الروائي رفيق موهوب لديه إمكانيات كبيرة لترك أثر إيجابي في الأدب السياسي التاريخي والاجتماعي وروايته “الهرَّاب” تنبض بالحياة تحمل القارئ في رحلة تأملية لا تُنْسَى يعيش تفاصيلها ويعيد اكتشاف ذاته بين سطورها رواية “الهرَّاب” جديرة بالقراءة.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.