السجن الأحمر أو”الحبس لحمر” واحد من السجون السرية وغير النظامية التي شيدها الاستعمار الفرنسي لتعذيب الجزائريين بعيدا عن أعين المنظمات الإنسانية، وبعيدا عن رقابة الإدارة السياسية، حيث لا يزال شاهدا على بشاعة الاحتلال من تعذيب همجي، وتقتيل عشوائي، ومع تزايد عدد الشهداء داخل هذا السجن السري فكرت قيادة الثورة تدويل القضية، وفضح ممارسات الاستعمار الفرنسي ضد الجزائريين أمام المنظمات الدولية، هذا السجن الذي سمي بـ”الحبس الأحمر” نسبة للون جدرانه التي طليت هكذا، لإخفاء لون الدم الذي يتطاير عند تعذيب المجاهدين وإضفاء جو من الرهبة والرعب عند المأسورين.
لقمع الانتفاضات الشعبية بمنطقة فرجيوة أنشئ السجن الأحمر
باعتبار منطقة فرجيوة وشمالها على الخصوص منطقة جبلية وعرة وسبق أن عرفت عدة انتفاضات وثورات شعبية في القرن الماضي، منها ثورة المقراني وثورة زواغة بالإضافة إلى انتفاضة 8/ماي/1945 التي مست عدة دواوير تابعة لبلدية فرجيوة كزارة أولاد عامر، الروسية، بل ولحقت حتى مشارف مدينة فرجيوة ذاتها، وبما أن البلدية كانت تضم 16 دوارا يرأسها عسكري ويساعده في كل دوار من الدواوير شانبيط وقائد.
وتحسبا لكل ما ذكر بات من الضروري في مفهوم الضابط العسكري أن ينشئ سجنا عسكريا ضخما وحصنا في هذه البلدية وهذا الحجم هو وحده يتكفل بقمع أي تحرك أو انتفاضة شعبية قد تلوح في الأفق مرة أخرى قبل استفحالها.
واستغرقت عملية إنجازه ما يقارب العامين حيث انتهت الأشغال منه في أواخر سنة 1955 على يد المقاول الفرنسي ألكسندر، وتم بناؤه بالحجارة والطوب المصنوعة من الرمل الأحمر، ولهذا سمي -بالسجن الأحمر- نسبة إلى لون جدرانه التي طليت باللون الأحمر وذلك لامتصاص لون الدم الذي يتطاير عند تعذيب المجاهدين الأشاوس، وإضافة جو من الرهبة والرعب في جنابته.
السجن الأحمر والزوابق جروحهما لا تندمل
يقول أحد الذين مروا بهذا السجن والذي يعتبر أحد أماكن الجحيم الفرنسية، المجاهد، إبراهيم رأس العين، وابن منطقة عين البيضاء أحريش الواقعة غرب ولاية ميلة والذي كان مسؤولا بالناحية الثالثة التابعة للمنطقة الأولى بالولاية الثانية التاريخية، إن من حول إلى السجن الأحمر فقد حول إلى قبره فالداخل إليه مفقود جراء ما ينتظره من أنواع العذاب والخارج منه مولود لأنه نجا من الجحيم على حد تعبيره، وهذا راجع لما رآه وسمعه خلال فترة مكوثه به، إذ بقي لمدة شهرين داخل زنزانة ضيقة جدا يعاني من الإصابة التي لحقت به دون تقديم أي نوع من العلاج له طيلة تواجده بالسجن، قبل أن يتم ترحيله إلى عدة سجون أخرى ثم أطلق سراحه قبيل الاستقلال بأيام.
ليعود بذاكرته إلى الوراء بالقول ما يزيد من مخاوف وعذاب المتواجدين بالسجن سماع آهات المعتقلين خلال استنطاقهم أو سماع أحدهم يردد الله أكبر، الله أكبر مخبرا عن اقتياده إلى الإعدام بحيث إن الكثيرين عبروا من السجن الأحمر إلى منطقة ـ كاف الزوابق ـ بالعياضي برباس، التي تبعد بعدة كيلومترات عن مدينة فرجيوة، ليتم رميهم هناك في هوة سحيقة تتلقاهم أسفلها الصخور والحجارة التي تقطع أجسادهم إلى أشلاء.
ومن بين أساليب التعذيب التي مورست داخل السجن حسب المجاهد إبراهيم رأس العين استعمال الكهرباء لاستنطاق المعذبين وكذا تغطيس رؤوسهم في الماء، وأيضا إخراجهم إلى ساحة السجن لتكسير الحجارة والزحف عليها.. إلخ من عمليات التعذيب التي عكست بحق وحشية القائمين بها وقياداتهم التي أباحت لهم فعل كل شيء للتنكيل بالجزائريين.
مدرسة لفنون التعذيب
كما يقول أستاذ التاريخ بجامعة “عبد الحفيظ بوصوف” بولاية ميلة، محمد بوسبتة، إن السجن الأحمر كان مدرسة لفنون التعذيب عكست جرائم ضد الإنسانية مارستها فرنسا الاستعمارية بعيدا عن الأنظار لقمع من ثاروا ضدها، وأضاف، أن ما مورس من تعذيب شهدت عليه الدماء التي لطخت جدران زنزانات السجن الأحمر لتخبر الأجيال القادمة عن سياسة تعذيب متجذرة وممنهجة كانت تتبعها فرنسا ضد الجزائريين.
ووفق ما ورد في الدليل التاريخي لولاية ميلة إبان الثورة التحريرية (1954-1962) بناء على شهادات أدلى بها مجاهدون اعتقلوا بالسجن الأحمر كان يتم بهذه المؤسسة التي لاتزال قائمة إلى الأن، تصنيف المساجين بعد التحقيق معهم واستنطاقهم تحت وطأة التعذيب القاسي ليوجه عدد منهم إلى سجون ومعتقلات عبر مختلف مناطق الوطن ومنهم من يطلق سراحهم أما الباقي فمآلهم الزنزانات الخاصة بالسجناء المقرر إعدامهم.
برنارد درافي يوثق شهاداته في كتابه “حرب الجزائر بعد خمسين سنة”
بلغ عدد السجناء والمعتقلين فيه آنداك، 445 سجينا تقريبا موزعين على كل الزنزانات التي لا تتعدى مساحتها 2,5 متر مربع ـ حسب شهادة الضابط “برنارد درافي” ـ وهو ضابط فرنسي عايش الثورة الجزائرية من مناطق ولاية ميلة وشهد على القمع الذي تعرض له أبناء المنطقة، والذي راح بعد أكثر من خمسين سنة يتذكر تلك المحطات السوداء في تاريخ فرنسا الاستعمارية فأدرجها في كتاب عن تلك الحقائق وهو كتاب “حرب الجزائر بعد خمسين سنة”، مردفا أن السجن الأحمر سجن رهيب كانت تمارس فيه مختلف أنواع التعذيب وكل الطرق كانت متاحة ولم تكن هناك سجلات للسجناء ولم تكن عملية تدوين هوية المساجين لأنه كان مركزا للفرز فقط ولم يكن معروفا لدى الهيئات الإنسانية فكان مجرد مكان لجمع المشتبه فيهم أو بعض المجاهدين الذين تم القبض عليهم ويضيف بأنه قد راسل مختلف السلطات العسكرية للتنديد بما كان يجري داخل السجن الأحمر كمراسلته المؤرخة في 15 ديسمبر 1959 إلى العميد فيرو، حيث شرح فيها كل التجاوزات التي كان عساكر فرنسا يقومون بها.
كان أغلب نزلاء السجن الأحمر ينقلون في شاحنات غير بعيد عن واد بوصلاح ويصطفون في صف واحد لتقوم مجموعة من العساكر بإطلاق النار عليهم دفعة واحدة.
ويبقى السجن الأحمر شاهدا على بشاعة المستعمر الفرنسي وسياسة التعذيب الممنهجة التي مارسها ضد الجزائريين والتي تعتبر جرائم ضد الإنسانية.
مكان الإعدام الجماعي “كاف الزوابق”
كاف الزوابق أو منحدر الموت والمتواجد ببلدية العياضي برباس وبمنطقة حمام أولاد عاشورتحديدا، كان الاستعمار الفرنسي يرمي المجاهدين الأحرارالبواسل والشجعان بعد إخراجهم من السجن الأحمر، عبر كاف وهوة سحيقة تتلقاهم أسفلها الصخور والحجارة التي تقطع أجسادهم إلى أشلاء.
“الصوت الآخر” في جولة داخل أسوار “الحبس لحمر”
في جولة ترشيدية خصنا بها الأستاذ والباحث محمد الصادق مقراني، علمنا أن هذا السجن بني على مساحة تقدر بــ 2000 متر مربع وهو يتكون من قسمين، فالقسم الأول خصص كمقر للضباط والمكاتب الإدارية من شؤون عسكرية وإعلامية (مكتب مسير السجن ومخزن الأثاث والأدوات) يعلوه سطح على شكل مستطيل يتوسط فضاء السجن من الأعلى وضع خصيصا للحراسة ومراقبة المساجين.
أما القسم الثاني فخصص للمساجين وهو يتكون من 29 زنزانة، يتفرع إلى مدرجين يحتوي كل منهما على عدد من الزنزانات الفردية والجماعية نلخصها في مجمعين، الأول منهما يتوسطه حائط يفصل بين الزنزانات الفردية في الجهة الجنوبية وعددها خمسة وأمامها فناء صغير به حنفية للماء ومرحاض، وتوجد بجانبه الشمالي أيضا خمس زنزانات جماعية أخرى وأمامها فناء صغير به حنفية للماء ومرحاض كذلك. توجد حجرة خاصة تستعمل للتعذيب والاستنطاق، أما المجمع الثاني: فيتوسطه حائط يفصل بين زنزانات الجهة الجنوبية وزنزانات الجهة الشمالية، ويعتبر الأكبر حجما إذ به ست عشرة زنزانة، ثماني في الجهة الشمالية وثماني في الجهة الجنوبية وكلها زنزانات جماعية منها اثنتان في الجهة الشمالية مخصصة للنساء، وفي كل جهة أمام الزنزانات فناء به حنفية ومرحاض.
وفي الأخير يعد هذا المعلم التاريخي، الذي تحكي جدران زنزاناته روايات وقصص عن معاناة من مروا بها وأذاقتهم فرنسا الاستعمارية على يد جنودها وضباطها ويلات العذاب، بل وتفننت في ذلك، ما ترك الأثر العميق لمرارة وهول ما لاقوه بداخله.
هل يتم تنظيم زيارات لهذا السجن التاريخي؟
كان الجواب “أحيانا”.. فهل هذه الكلمة منصفة لإرث تاريخي يشهد على ضخامة تضحيات ومرارة الكفاح؟، ما ينبغي أن يكون عليه هذا المعلم هو تواجد يومي لقوافل من التلاميذ والطلبة، وغيرهم من فئات الشباب من مختلف القطاعات ينتظرون دورهم لأخذ جرعة من إكسير بناء الشخصية الوفية للوطن وتضحيات الأجداد.
عزري إيمان