2025-01-18 23:04

تأخذنا رواية “الهَرّاب” للإعلامي والكاتب الروائي “موهوب رفيق” في رحلة عبر صفحة من صفحات التاريخ الجزائري الأكثر جدلا وإثارة للتناقضات والتساؤلات اللامتناهية، أو فيما يعرف بالعشرية السوداء.

فترة التسعينات الدموية والأشد قسوة على الجزائريين في مرحلة ما بعد الإستقلال، والتي  سبق بها الجزائريون إخوانهم العرب في مقاساة تناقضات الإيديولوجية وضيق الأفق الفكري، كنتيجة حتمية لطول المعاناة الفكرية والمصطلحية، وغياب بيئة للحوار المجتمعي المفتوح، والذي كانت نتائجه كارثية، رأى فيها الجزائريون من فظائع الحرب الأهلية أشكالا وألوانا، من تقاتل بين الإخوة ومجازر يندى لها الجبين خزيا ورعبا.جرائم كان مقترفوها أقل ما يقال عنهم أنهم فقدوا إنسانيتهم قبل أن يفقدوا عقولهم. أحداث ستبقى وصمة على جبين الضمير الجمعي الجزائري، كلما تعرض لها أحد بالذكر تفتقت الأسئلة المُحَيّرة لتبقى دون إجابات.

تأخذنا هذه الرواية المتشابكة الأحداث في رحلة يتقاطع خلالها الواقع بالخيال المبدع للكاتب، محاوِلة تسليط الضوء على جانب مهمل في المجتمع الجزائري، بل يعد من الطابوهات الإجتماعية لثقل ما يحمل من التصورات الإجتماعية السلبية، حيث تعالج بجرأة وجدية موضوع تواجد العنصر اليهودي داخل المجتمع الجزائري كمكون له حضوره التاريخي عبر الجغرافيا و في ذاكرة الشعب الجزائري الثقافية.

في أزقة حي القصبة، حيث تسكن ذاكرة الجزائريين الجماعية، حافظة لمظاهر  تلك  الحضارات الغابرة التي مرت خلالها، حيث تتقاطع ثقافات صارعت النسيان

تنسج الرواية حكاية بطلها داوود اليهودي، الذي عايشت عائلته كل الأحداث التاريخية الجزائرية الكبرى، بدءًا من الحقبة الاستعمارية إلى الاستقلال، وصولا إلى العشرية السوداء، حيث تتطور الأحداث وتتشابك لتشكل بيئة روائية تعكس مرحلة التسعينات المظلمة تتخللها أعمال جوسسة بطلها داوود اليهودي، وجرائم قتل أبطالها أشباه بشر فقدوا إنسانيتهم، وأخبار عن أشخاص قاوموا الظلم والإحتلال ولم يعلم عنهم الناس شيئا.

رواية الهرّاب تجمع في أسلوبها بين الرواية البوليسية، والتاريخية، والواقعية، حيث يوظف الكاتب حقائق تاريخية لينسج حولها قصة جاسوس، ويربط بينهما بأخبار لأسر جزاىرية تعيش حياتها البسيطة في مرحلة كان عنوانها الأكبر هو الخوف والموت.

يبرز الكاتب عبر سرده الأدبي المميز، حكاية داوود، الذي يعاني أزمة هوياتية حقيقية، حيث تحاصره الأسئلة من كل جانب، أسئلة يطرحها على نفسه في خلواته عن حقيقة أصوله وعلاقته بالمجتمع الجزائري الذي ولد فيه والتناقضات التي يكابدها كل يوم، من أول تلك الطقوس التي يراها في بيته إلى تساءلات أصدقاءه عن سبب عدم ذهابه للمسجد للصلاة معهم.

لم يكن داوود في طفولته يعلم عن حقيقته شيئا، فقد كان يدرس في مدارس الجزائريين، ويتكلم لغتهم، ويحفظ الكثير من القرآن، لكنه لم يكن يفهم طقوس عائلته في يوم السبت وكثيرا مما تفعله جدته في سائر الأيام، وهي التي أكدت له أن جده ترك دين أجداده ليصبح  مسلما، بل مساهما بأمواله في سبيل ثورة التحرير الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي. حالة عززت أزمة الهوية عند داوود وهزت قناعاته وحولته إلى جاسوس يعمل ضد مصالح وطن ولد وعاش فيه.

يظهر الكاتب عبر عملية سردية مضطردة، صورا من العشرية السوداء تعيد ذاكرة القارئ الجزائري إلى فترة لا تزال تسكن وجدانه وتقض مضاجع لا وعيه، وتطلع القارئ غير الجزائري، على جانب من تاريخ الجزائر ربما لا يعلم عنه شيئا، حيث يرافق القارئ شخصيات حية، من داوود اليهودي الذي اختار أن يخون الأرض التي ولد فيها  وعاش مع أهلها وقاسمهم خيراتها، وفاء لخرافة أرض موعودة في فلسطين، إلى “خداوج” التي كان كل همها أن تتزوج فوجدت نفسها زوجة ليهودي، مرورا بالبهلولة المسكينة التي ترملت يوم زفافها.

تنقل لنا الرواية صورا من العشرية السوداء أين اختلطت الرذيلة بالفضيلة والخسة بالكرامة  والخيانة بالوفاء، تتخللها ذكريات مضيئة لأب خداوج المناضل الذي يقضي نهاره في  رواية قصص عن نضاله في سبيل القضية الفلسطينية، بجانب شخصية تاريخية يلقبها الكاتب “سي عبد العزيز” والمعروفة في الواقع ب”محمد بودية” الذي لقبته الموساد بالشبح، والذي يمثل في رأيي نقيضا لداوود اليهودي بطل الرواية الذي اختار خيانة وطنه الحقيقي من أجل خرافة.

يستكشف الروائي موهوب رفيق مواضيع الهوية والانتماء والتعايش، ويطرح تساؤلات عميقة حول الذاكرة الجماعية والفردية، ويحاول من خلال نصه السردي تصوير هواجس شخصيات جزائرية عبر حقبة مظلمة مليئة بالشك، فاقت ظلمتها حرب التحرير التي كانت واضحة المعالم يقينية الهدف.

تتميز رواية  “الهَرّاب” بلغة سردية واقعية وغنية المفردات، حيث يوظف الكاتب الزخم اللساني المتنوع للجزائريين، فنجد جملا من الدارجة الجزائرية، والفرنسية، حيث تأخذ القارئ في رحلة عبر أزقة العاصمة ومنازلها، مستعرضةً تارة  لحظات من الألم والأمل، والخيبة والانتصار. إنها ليست مجرد رواية، بل هي دعوة للتأمل في تاريخ الجزائريين المتنوع و استدعاء للعقل الجزائري لمزيد من التفكر في عمق جذور التنوع الفكري والثقافي في الجزائر.

أدعوك عزيزي القارئ لفتح صفحات “الهَرّاب” والانغماس في هذا العالم الأدبي المميز، لتكتشف قصصًا لم تُروى من قبل وتتعرف على جزء مهم من تاريخ الجزائر، وتشارك ذاكرة الجزائريين الألم والأمل في لحظات قراءة وتأمل.

 

 

عبد الكريم مباتة

شاعر وكاتب

وهران : 5 جويلية 2024

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.