2025-01-19 01:22

منام ميت” للموهوب اسماً وفعلاً “رفيق موهوب” ليست عملاً سرديًا إبداعيًا متميزًا فحسب بل هي أيضًا مساءلة تاريخية جريئة لم يجرؤ مبدعُ أن يثيرها بالحدة والوضوح مثلما فعل “رفيق موهوب”  والمثير في هذا النص السردي أنه __وإن كان باكورة أعمال هذا الإعلامي المتميز __فإن هذا النص الجميل أُنتج بطريقة مبهرةٍ تجعل القارئ يتوقع أن الروائي سبق وأنجز أعمالاً أخرى جازمًا أنه خاض تجارب كثيرة في مساره الإبداعي قبل أن يبدع “منام ميت” لما يتسم به هذا النص من ميزات فذة وما ينبني عليه من أنساق متنوعة ومتداخلة ؛جمالية وتاريخية واجتماعية وسياسية وثقافية ودينية وحضارية وهي كلها أنساقٌ أراد من خلالها المؤلف أن يضع القارئ الذكي أمام سردية تاريخية يتحاشى الكثير من المؤرخين والكتاب والمبدعين الخوض في تفاصيلها رغم ما فيها من وقائع مهمة جدا تستدعي الذاكرة الجماعية الجزائرية وتكشف عن المسكوت عنه اضطراراً في حقبة حرجة بين مرحلتين متباينتين متصادمتين في تاريخ الجزائر ؛ هما أواخر الحكم العثماني وبدايات الاحتلال الفرنسي ومارافق هذا الانتقال التاريخي من فتنٍ وفوضى وصراعات ؛وإذا تجاوزنا هذا النسق التاريخي الذي هو حريٌّ أن نقف عنده مطولاً في سياقات قادمة فإن النص يحيلنا على المستوى الاجتماعي والنفسي إلى تلك الفيسفساء العجيبة التي تتشابك فيها الأهواء والمطامع والدسائس وتفاصيل مقيتة عاشها الإنسان الجزائري في متاهة العبثية واللامنطق التي تجعل من “غسال الموتى” ذلك الإنسان النكرة؛ مجهول النسب ! حاكماً لبلاد قوية كانت إلى عهد قريب تفرض الاتاوات والضرائب على دول حوض المتوسط ؛ وأمامنا هذا الاعتراف الذي يجمع فيه “السارد الخارج حكائي” مجموعة من الصفات القذرة تعمق المفارقة العجيبة التي تجعل من هذا السارق المارق الوضيع غسال الموتى الموصوف بكل هذه الصفات المتدنية حاكماً للجزائر وما أدراك ما الجزائر ! في ذلك السياق التاريخي و السياسي المتردي ؛ لنتأمل مع كثير من العجب هذا المقطع السردي :(أنا مجهول النسب، الوضيع الذي ولد في الحمام، غسال الموتى، السارق، المارق، سأجلس غدا في كرسي الداي، وبعده سأرسل هدية لأجلب فرمان التعيين من قبل سلطان الدنيا والدين الخليفة السلطان عبد الحميد، وسيكون بيدي مفتاح خزنة الداي، الخزنة التي أقضّت مضاجع الملوك والسلاطين والحكام والأمراء في أوروبا وفي كل أصقاع العالم ستكون بين يدي، وأنا الذي جئت من نزوة عابرة لبحّار ترك زوجته تلد في حمام قذر، عملت حمالاً، وجاسوسًا، وتكبّدت السجن في الكدية وسجن السلطان لأصبح أنا السلطان.. ألم يجدوا أحسن مني في هذه البلاد التي أنجبت العظماء!؟” رواية “منام ميت ” ص …

وتلك شفرة أراد بها “رفيق موهوب” أن يحاكم بعد أن يكشف بلغة المبدع الفذ الذكي الأسباب الخفية التي أوقعت البلد القوي في هذا المأزق التاريخي الخطير ورغم أن الكاتب لم ينشغل كثيرا بالتفاصيل الدقيقة التي رافقت هذا المأزق بوضوح وجلاء إلا أنه ترك للقارىء المستقرئ فهم تلك التفاصيل بالعودة إلى مساقات وقرائن تاريخية محددة.

وفي المستوى الثالث تتجلى البنية السياسية الهشة التي تشكلت في أيالة الجزائر بعد أن تتداعى وتهالك (الرجل المريض) الذي كان يحكم ثلثي المعمورة؛ تلك البنية المهترئة التي تحت  تفاهمات قذرة فوَّضت صاحب المنام الميت أن يكون داياً للجزائر فيكون منامه حلمًا سياسيًا جريئًا يتزامن مع هشاشة المشهد السياسي الجزائري ويترجم في أسوء صورة ما وصلت إليه الجزائر من ضعف بعد أن انشغلت عنها السلطنة التركية بأوجاعها وتناقضاتها وهاهو “علي الغسال” (داي الصدفة القذرة) يسَّرد المشهد بوصفه “ساردا داخل حكائي” يهمين على كل مكونات الخطاب السردية ويوجه كل الأحداث داخل ومضة زمنية ذهنية تبدأ باسترجاع زمني ذهني خارجي تُداخله استباقات واسترجاعات داخلية متباينة في مداها ومساحتها الزمنية ؛ يقول في متتالية سردية تداخلها مجموعة من المقاطع السردية نحاول أن نتتبعها ونقرأ دلالاتها  ؛ يقول السارد/البطل(بينما كنت جالسًا في وقت الظهيرة ؛ على شاهد قبر بمقبرة القطار حيث يدفن الزنوج والبرانية فاجأني النوم ثم استيقظت مفجوعًا والعرق يتسبب من جبيني من هول ما شاهدت في منامي….هل سيحدث في الواقع.؟ هذا من ثامن المستحيلات!) ص7 من رواية “منام ميت”

ثم يواصل “السارد داخل الحكائي” تفاصيل هذا المنام الذي يبدأ باسترجاع خارج زمن الخطاب هو مرحلة الطفولة ؛ تلك الطفولة المتعفرة بالبؤس والوباءوالعفن والروائح القذرة والألوان الجنائزية المقيتة (قلتها وشريط البؤس يمر بعيني بداية من طفولتي التي قضيتها في قسنطينة، هناك تربيت في كوخ خالتي الطاووس، هروباً من وباء الطاعون الذي حلَّ بمدينة الجزائر، كانت أجساد الموتى العراة تتراءى لي من بعيد كأنها حيوانات مفترسة تريد الانقضاض علي وتطاردني في أزقة ضيقة، وكان هناك صندوق كبير كأنه كنزٌ، فلما فتحته وجدت فيه جماجم بشرية وحيوانية وهياكل عظمية، وطواحين ورمادًا أسودًا ورائحة العفن المنبعثة من جثث جنود دفنتهم بالجملة في عام المجاعة.) ص7 الرواية

وإذا تجاوزنا هذا المقطع بتفاصيله المكثفة دلالياً ومواصفاته الإجرائية داخل بنية النص نقرأ في مقطع سردي يلي المقاطع السابقة لحظة الاستيقاظ التي تشكل خروجاً من الزمن الذهني ودخولاً في زمن واقعي تبدأ بصورة مرعبة شكلها الروائي لغويا بصورة رائعة،  دقيقة في توصيفها ومحددة في دلالاتها (وعند الاستيقاظ المفجع بدأت أتحسّس جسدي المتعب من غسل الموتى وحفر القبور، حتى أني أحسست بألم شديد في رقبتي، ولم أكن أدري أن الأقدار حكمت علي أن يمر السيف من مكان ألمي فيرديني قتيلاً في قصر السلطان بالجنينة بأعالي العاصمة، ويعلق رأسي في المكان الذي عُلّق فيه رأس سيدي منصور المحقور في قاع السور) ص7 رواية منام ميت

لتنتهي تلك المقاطع السردية التي شكَّلت بتواترها المحكم متتاليةً سرديةً جمعت بين المنام واليقظة واختزلت في صورة(flash back) الومضة الزمنية مجموعة من الأحداث التي سيأتي سردها بكل التفاصيل والجزئيات في متن الرواية.

وفي صورة دقيقة في ملامحها _ على المستوى نسق المضمر والمسكوت عنه _ ببعديه السياسي و التاريخي يحرص الروائي عبر سلطة سارده أن يوثق تاريخياً قيمة سياسية مهيمنة تتمثل في سلطة اليهود داخل “قصر الجنينة” بل إن هذه السلطة تتجاوز القصر إلى كل أرجاء المحروسة ويبين هذا المقطع السردي تلك الوسائل القذرة التي بها يسيطر اليهود على مفاصل الدولة كلها وبالتأكيد فإن اليهود كان لهم دورًا خفيًا وفعالاً في إبرام تلك التفاهمات العابثة التي جعلت من “علي الغسال” داياً للجزائر في مفارقة عجيبة وغير مفهومة (فقد كان لليهود في المحروسة خاصة التجار الكبار منهم حظوة لدى الداي والديوان عموما فالكل كان يأتمر بأمره “الحديث عن بن زحواط اليهودي” فهو كان يحيي يميت ويدخل من يشاء السجن ويدخل من يشاء النعيم ؛ كان يعرف أقصر الطرق للوصول إلى الرجال؛ تارة بالمال وتارة بالسلطان وتارة بالنساء والجواري والليالي الملاح ) رواية المنام الميت ص28

ويُشَّكلُ عنوان الرواية “منام ميت” بوصفه نصًا موازيًا مفارقة زمنية حيث  يختزل كل مضامين الرواية ؛ وهو بهذا المنحى يقيم علاقة (الكل بالكل) مع متن الرواية _أي نصها المتواتر _ دافعاً القارىء  عبر إغراءٍ وتحدٍ مقصودين لخوض مغامرة قراءة النص لفهم تلك العلاقات الممكنة التي تشكل بؤرةً (focal) لاستشراف مدى تحقق ذلك المنام الذي يبدو في البداية بحمولته التي تجمع بين الغرابة والغواية والذهول وتفاصيل الرعب لمآلات ذلك المنام الذي يحيل صاحبه إلى نهاية دراماتيكية حين (تقطع رأسه وتعلق في قاع السور) ص7 رواية منام ميت .

والعنوان في دلالة آخرى يحيل إلى الزمن المتياواقعي سابقًا بذلك الوقائع المسرودة حيث يمهد من خلاله السارد إلى الأحداث التي سيتتبعها فضولُ القارئ في ثنايا الرواية مستجوبًا النص ةمستنطقا له لفهم مسوغات البدء بهذا المنام المنسوب لميت سيصبح دايًا ثم يؤول إلى حتفه المأساوي!

رواية “منام ميت” ليست رواية جمعت بين التاريخ و السياسة والسرد فحسب بل هي نصٌ مختلفٌ جريءٌ واعٍ سرد فيه “رفيق موهوب” التاريخ بتشكيلٍ لغويٍ ماتعٍ حقًا تغري هذه المتعة القارئ بالارتداد إلى تلك المرحلة المكتنزة تاريخيا مستقرئًا ومعاينًا المسكوت عنه بكل المضمرات الممكنة من الأحداث والوقائع والأسرار الخفية التي سبقت ومهدت ورافقت نكبة الجزائر بالاستدمار الفرنسي الهمجي

د : مكي محمد

 أستاذ تحليل الخطاب ومناهج الدراسات النقدية المعاصرة

جامعة المدية الجزائر

About The Author

3 thoughts on “غواية السرد وبوح المضمرات في رواية “منام ميت” لرفيق موهوب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.